أعاد القرار الأخير الصادر عن مجلس الوزراء اللبناني، والقاضي بتكليف الجيش اللبناني بوضع آلية تنفيذية لنزع سلاح حزب الله حتى نهاية العام الحالي؛ فتح واحد من أكثر الملفات حساسيةً وتشعّباً في المشهد السياسي والأمني اللبناني. ويأتي هذا القرار بعد الحرب الأخيرة بين الحزب وإسرائيل، والتي شكّلت تحوّلاً نوعياً في ميزان الردع، وطرحت تساؤلات جدّية حول مستقبل سلاح الحزب، ومدى واقعية السيناريوهات المطروحة لتجريده منه.
في المقابل، لم تكن الحرب الأخيرة مجرّد جولة جديدة في الصراع المزمن بين حزب الله وإسرائيل، بل كانت بمثابة اختبار شامل لقدرات الحزب العسكرية واللوجستية. إذ تعرّض الحزب خلال هذه المواجهة لخسائر جسيمة، تمثلت في تدمير مراكز قيادة، ومستودعات صواريخ، وقدرات مسيّرة متطورة، بالإضافة إلى فقدانه عدداً من أبرز قياداته الميدانية والتقنية. وقد أدّت الضربات الجوية الإسرائيلية، التي استهدفت مناطق استراتيجية في البقاع والضاحية الجنوبية، إلى تقويض بنيته العسكرية بشكل غير مسبوق منذ حرب 2006.
في موازاة ذلك، كثّفت الولايات المتحدة ضغوطها على الحكومة اللبنانية، في اتجاه نزع سلاح الحزب، معتبرةً أن ضعف البنية العسكرية الحالية يشكّل فرصة نادرة لإعادة فرض سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، لا سيما جنوب الليطاني، وفقاً للقرار 1701. كما برز تنسيق أميركي – فرنسي في هذا الملف، يعكس اتجاهاً غربياً متزايداً لتدويل المسألة، وربطها بالمساعدات الاقتصادية المنتظرة للبنان.
كما أن من أبرز التطورات المرافقة لهذا الضغط، تعطيل مسالك الإمداد التقليدية للحزب، سواء عبر الحدود السورية أو عبر الجسر الجوي الإيراني. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تشديداً غير مسبوق في الرقابة الجوية والبحرية، بما انعكس مباشرة على قدرة الحزب على تعويض خسائره. وفي حين أن طهران لا تزال تواصل دعمها المالي والسياسي له، إلّا أن الانشغالات الإيرانية بالحرب الإسرائيلية السابقة، من جهة، ومفاوضاتها النووية الشاقة مع الغرب، من جهة ثانية، حدّت من قدرتها على توفير الدعم النوعي السابق.
كما تقاطع هذا الواقع الإقليمي والدولي مع جملة متغيّرات داخلية:
1. تحوّل في خطاب الدولة اللبنانية:
للمرة الأولى منذ انسحاب الجيش السوري عام 2005، تتبنّى الرئاسة اللبنانية، المتمثلة اليوم بالعماد جوزاف عون، خطاباً واضحاً في مسألة احتكار السلاح، مدعوماً ببيان وزاري لحكومة نواف سلام، أسقط صراحةً ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، التي طالما شكّلت غطاءً لسلاح الحزب. وللمرة الأولى تصدر الحكومة قراراً تاريخياً بنزع سلاح حزب الله ضمن مهلة زمنية محددة.
2. أزمة اقتصادية خانقة وتراجع الحاضنة الشعبية:
في ظل الانهيار الاقتصادي المتواصل، وتباطؤ مشاريع إعادة الإعمار في مناطق الجنوب والبقاع، بدأ المزاج الشعبي في بيئة الحزب يشهد تبدلاً ملحوظاً. فالمواطن الجنوبي، الذي دفع ثمن الحرب الأخيرة، بات يتساءل عن جدوى استمرار المواجهة في ظل غياب أفق سياسي، وانسداد اقتصادي خانق، ما يعزز الأصوات المطالبة بالعودة إلى الدولة ومؤسساتها.
3. صعود دور الجيش اللبناني جنوباً:
أظهر التقرير الأخير لقائد الجيش العماد رودولف هيكل تقدّماً ملموساً في فرض سلطة الجيش جنوب الليطاني، لناحية ضبط مواقع عسكرية غير شرعية، ومصادرة أسلحة، وإعادة تفعيل التنسيق مع قوات اليونيفيل. كما لوحظ تجاوب غير معتاد من قبل الحزب مع هذه الإجراءات، في مؤشر على محاولة امتصاص الضغوط دون المجازفة بالمواجهة المباشرة.
السيناريوهات الثلاثة: بين الواقعية والمغامرة
1. التفكيك التدريجي ضمن تسوية داخلية:
يُعدّ هذا السيناريو الأكثر واقعية وقابلية للتنفيذ، ويقوم على مبدأ إدماج الحزب بشكل تدريجي أكبر في النظام السياسي اللبناني، مقابل تخلّيه عن سلاحه الثقيل والمتوسط. ويتطلّب هذا السيناريو توافر ضمانات داخلية وخارجية، تحفظ دور الحزب السياسي، وتؤمّن حماية مجتمعه المحلي، وتمنع استهدافه مستقبلاً. هذا النموذج شبيه بما شهدته بعض الحركات المسلحة في دول أخرى (كإيرلندا الشمالية)، وقد تزداد فرص نجاحه مع تواصل الضغوط الخارجية وتنامي شعور الحزب بالإنهاك.
2. المماطلة والرهان على المتغيّرات:
قد يختار الحزب خيار «شراء الوقت»، عبر إظهار مرونة شكلية، مع استمرار التسلّح والتموضع في الخفاء، ريثما تتضح مسارات العلاقة الإيرانية – الأميركية، أو تتغيّر موازين القوى الإقليمية. وهو خيار يُبقي الحزب ضمن المعادلة، لكن من دون حلول نهائية، ما قد يفاقم التوترات ويعيد إنتاج الأزمات.
3. اللجوء إلى التصعيد العسكري:
ورغم أنه السيناريو الأقل احتمالاً، إلّا أن خيار التصعيد يبقى مطروحاً، خصوصاً إذا ما شعر الحزب أن وجوده مهدّد، أو في حال تم تنفيذ خطوات نزع السلاح بالقوة دون توافق سياسي. غير أن أي انزلاق إلى مواجهة داخلية أو مواجهة جديدة مع إسرائيل، قد تكون مدمّرة للبنان في ظروفه الراهنة، ما يجعل من هذا السيناريو مقامرة خاسرة للجميع.
في الختام، إن مسألة نزع سلاح حزب الله لم تعد من المحرّمات السياسية كما كانت في السابق، بل باتت تطرح اليوم كأولوية ضمن النقاش الوطني، بفعل تراكم الضغوط الخارجية، وتبدّل الوقائع الميدانية، وتغيّر المزاج الشعبي. لكنّ ترجمة هذا الطرح إلى واقع عملي ما زالت رهناً بتوافق داخلي شامل، يراعي خصوصية المرحلة، ويحفظ الحد الأدنى من الاستقرار، ويؤمّن انتقالاً آمناً للحزب من السلاح إلى السياسة. في حين وحده الحوار الوطني الجاد، المشفوع بضمانات دولية واضحة، يمكن أن يفتح باب الحل، ويعيد رسم مستقبل لبنان خارج منطق السلاح والتبعية والمحاور.
