Site icon IMLebanon

مزارع شبعا وتلال كفرشوبا

 

 

 

ترك الإنفصال الذي فرضه الرئيس السوري حسني الزعيم، في العام 1952، بين لبنان وسوريا، مسائل شائكة وجروحا عميقة في الحدود بين لبنان وسوريا وأيضا في المؤسسات وفي الممتلكات، وكذلك في المعابر الشرعية وغير الشرعية. وجاء إغتياله السريع بعد عام، ليترك المبضع يوغل في نفوس اللبنانيين والسوريين، أكثر مما كان يداويها ويجعلها تلتئم بعافية، وليس على أورام، سرعان ما تحوّلت إلى سرطانية، بين الشعبين في الدولتين الشقيقتين.

نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن لبنان ظل يعتمد بنك سوريا ولبنان، ويتداول العملات الواحدة التي تصدر عنه في سوريا. ولا زالت الأوراق النقدية، التي كنا نتداولها طيلة فترة الخمسينيات تذكّرنا بذلك. إلى جانب مباني بنك سوريا ولبنان، والذي لا يزال عاملا حتى اليوم، وهو شاهد حيّ على تلك التداولات القديمة، التي زالت بتأسيس مصرف لبنان وشراء الذهب له، حين تولى نائب عكار عبود عبد الرزاق، وزارة المالية في عهد الرئيس كميل شمعون.

 

كذلك نذكر، أن محطة القطار في وادي خالد، لا تزال حتى اليوم سورية. وهي قد ضربت سياجا حول نفسها، وتركت بابا وحيدا مفتوحا لجهة موقف القطار. ولا يزال الموظفون السوريون يدخلون ويخرجون من هذه البوابة، حتى توقف القطار عن الصفير، بُعيد الحرب الأهلية الأخيرة في ثمانينات القرن الماضي.

مقابل ذلك، كانت محطة العكاري في سوريا، بعد معبر النهر الكبير الجنوبي، لبنانية. وكانت المديرية العامة لسكك الحديد، هي التي تعيّن الموظفين فيها. ولم يجرؤ اللبنانيون على تسييجها، خوفا من الدولة السورية.

وينسحب هذا الأمر على محطة القطار في معبر وادي الحرير بسرغايا. تتشابك الحدود، ويتشابك الموظفون، وظل الأمن اللبناني يدخل إلى سرغايا ويحفظ الأمن فيها، ويمنع التهريب، بالقطار، أو من خلال المعابر غير الشرعية.

في مرتفعات بلدات وادي خالد ووادي السباع وجبال أكروم، وكذلك في وعر بلدة حنيدر وقرحا والكنيسة والقصير، تشتبك الحدود بين لبنان وسوريا، ويصعب الأمر في الدخول إلى بعض البلدات اللبنانية في السلسلة الشرقية، إلّا من خلال الدخول من الجهات السورية. ولا يزال أهالي بلدة الطفيل، يعانون من هذه المسألة الشائكة، خصوصا في ظل الأوضاع المتردّية، «بُعيد الربيع العربي» وتسلل الإرهاب إلى جبالها.

ظلت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، مسرحا لعمليات المقاومة الفلسطينية، التي تنازل عنها إتفاق الطائف طوعا أو عنوة. واتخذت هذه المنطقة مسمّى «فتح – لاند»، لفترة طويلة، حتى مرحلة الخروج الفلسطيني منها، بسبب الإحتلال الإسرائيلي لها في حرب تشرين الإحتلالية – العام 1973. بعدما كان الجيش السوري قد دخل إليها أثناء الحرب، وسيطر على أرجائها سيطرة كاملة، باعتبارها أرضا سورية، أخلاها لبنان، كما أخلى الموظفين والقوى الأمنية، من محطة العكاري ومن باغوز سرغايا، ومن خراج بلدات السلسلة الشرقية المتداخلة.

كانت الدولة اللبنانية، كما في الثقافة السياسة اللبنانية – الفلسطينية، قد أخلت تلال كفرشوبا ومزارع شعبا، لمصلحة فتح – لاند، مقابل هدنة مكتومة مع المقاومة الفلسطينية، لأنها ليست إرثا صافيا، بل إرثا مشتركا متنازعا عليه بين لبنان وسوريا. أراد لبنان شراء الأمن في داخله، مقابل التنازل، عن «ملكية متنازع عليها أصلا مع الغير». وجد في ذلك سهولة، ووجد في ذلك تسهيلا. وسكتت الدولة عن المطالبة بحقها، بإعتبار أن الأهالي اللبنانيين، هم الذي يملكون هذه الأراضي، وإن لم يتبيّن الأمر، لا في سوريا ولا في لبنان، خصوصا بعد دخول العامل الإسرائيلي، وإحتلاله المزارع والمرتفعات، وما أخلته الدولة اللبنانية من مراكز ومخافر، تقع تحت إمرتها.

بعد التحرير في العام 2000، خرج الإسرائيليون من لبنان، وظلوا يحتفظون بالتلال وبالمزارع، بإعتبار أنها احتلت من القوى السورية، بعد طردها منها.

وورثت المقاومة الإسلامية وحزب الله هذه الإشكالية. وخوض فيها السياسيون اللبنانيون جميعا، على إختلاف إنتماءاتهم. وجرت محاولات عديدة (بالتمني طبعا)، مع النظام السوري، بعد خروجه من لبنان، وليس قبله، لأنهم لم يكونوا يجرؤون على ذلك، في ظل حكم: غازي كنعان ورستم غزالي، وكيلي الأسد الأب والأسد الإبن. واللذان كانا يعيّنان الرؤساء والوزراء، ويجريان الانتخابات النيابية.

بعد التحرير، برزت ورقة المزارع والتلال، كورقة تبرر مقاومة الإحتلال الباقي فيها. وكانت المقاومة تجد فيها مصلحتها، ولهذا لم تذهب إلى حلفائها في سوريا، لمطالبتهم بالتنازل عنها، خصوصا بعد أن ظهر محور المقاومة والممانعة. وصارت الأوامر، كما المال والسلاح، تأتي من إيران، حتى حرب السابع من أكتوبر 2023، وعودة الإحتلال إلى الجنوب والجولان وجبل الشيخ، وصولا إلى درعا والسويداء، وجميع البلاد السورية في محيطها.

رتّب فرار الأسد، الهزيع الأخير للمقاومة وكذلك لمحور الممانعة، بعد التوجه إلى إيران بالضربة اللازبة. واستيقظت دمشق على إدارة وحكومة أحمد الشرع، وعلى عملية التفاوض معها على المصالحة والتطبيع. اللبنانيون اليوم، الذين يعجزهم حصر السلاح، كيف يسهل عليهم حصر الإرث، خصوصا، ونحن نسمع عن مقولة جديدة: التطبيع مقابل الجولان لإسرائيل، معنى ذلك: الأمن في سوريا مقابل الجولان.

الإدارة السورية الجديدة، وريثة العهود الآبقة، غير جاهزة بعد لمجرد مناقشة هذا الأمر مع اللبنانيين، الذين يظهرون غير جاهزين لحصرية السلاح، فكيف بحصرية الأرض!

فلنبدأ بالملفات التي لا تماس لإسرائيل معها. فإذا ما نجحنا فيها، نحضر أنفسنا للملفات الأخرى ذات التماس مع المحتلين. خيطوا أولا بهذه المسلة، ثم إذا ما نجحتم، خيطوا بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا. أظهروا براعتكم في تنفيذ خطاب القسم أولا. تعالوا إليه، قبل فوات الأوان، حتى لا تفوّتوا الفرصة! ولا يكبر الحجر على سواعدكم!