Site icon IMLebanon

مزارع شبعا ليست للبيع… ولا للتبادل

 

 

 

تُعدّ مزارع شبعا رمزاً لواحد من أبرز أوجه الصراع الحدودي غير المحسوم في منطقة الشرق الأوسط، إذ تجسّد هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة إصرار الشعب اللبناني على التمسّك بسيادته الوطنية ورفضه لأي شكل من أشكال التنازل عن حقوقه التاريخية والقانونية. وقد أعاد السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث إلى سوريا ولبنان، توم برّاك، إثارة هذا الملف من زاوية صادمة، عندما قال خلال لقاء إعلامي: «ذهبت إلى مزارع شبعا. بصراحة، ظننت أنها مزرعة خيول أصيلة من كنتاكي، إنها أجمل قطعة أرض رآها أحد على الإطلاق… لم أفهم لماذا يتقاتلون عليها، يمكن تبادل بعض الأراضي حولها، فهذه أرض لا قيمة لها».

هذا الطرح أثار دهشة الأوساط الرسمية اللبنانية، إذ يُطرح لأول مرة من مسؤول أميركي بهذا الشكل العلني، ويمسّ جوهر السيادة اللبنانية. فقد كان من بين المقترحات الأميركية تبادل أراضٍ لحل أزمة النقاط الـ13 الحدودية المتنازع عليها على الخط الأزرق، والتي لا يزال بعضها تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 2000، بينما عززت إسرائيل وجودها في بعضها الآخر خلال حرب 2006، غير أن لبنان الرسمي رفض منذ البداية أي مقايضة، لا في شبعا ولا في غيرها، انطلاقاً من مبدأ سياديّ ثابت، وقناعة بأن الأرض لا تُقدّر إلّا من أهلها، وهم وحدهم من يقرر مصيرها.

 

ما غاب عن بال توم برّاك، وغيره من دعاة تبادل الأراضي، هو أن مزارع شبعا ليست مجرد مساحة جبلية يمكن التفاوض بشأنها بمعزل عن قواعد القانون الدولي، بل هي جزء لا يتجزأ من الأراضي اللبنانية، يُمارَس عليها احتلالٌ موصوف يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وتحديداً مع المادة الثانية منه التي تمنع استخدام القوة أو التهديد بها لاقتطاع أراضي الغير، ومع قرارات الجمعية العامة التي كرّست مبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي عن طريق الاحتلال.

وتُعدّ مزارع شبعا من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، إذ تقع بمحاذاة هضبة الجولان السورية المحتلة، وتشكّل نقطة مراقبة عسكرية تطلّ على عمق الجنوب اللبناني، فضلاً عن غناها بالموارد الطبيعية والمياه والمراعي. ولولا أهميتها، لما تمسّكت بها إسرائيل ورفضت الانسحاب منها في أيار/مايو 2000، يوم انسحبت من جنوب لبنان تحت ضغط المقاومة، بحجة أنها أرض سورية لا لبنانية، رغم أن جميع الوثائق والخرائط تُثبت العكس.

فقد أظهرت القيود الضريبية العثمانية أن أهالي بلدات حاصبيا وشبعا اللبنانيين كانوا يسدّدون الضرائب للدولة العثمانية عن العقارات الواقعة في تلك المنطقة، ما يدلّ على ملكيتهم لها. كما أن الخرائط العثمانية المتوفرة توثّق بدقّة هذا الواقع التاريخي، وتؤكد تبعية مزارع شبعا للإدارة اللبنانية ضمن السلطنة العثمانية. كما أن الخرائط الرسمية التي أصدرتها الدولة اللبنانية عام 1948، والخرائط المرفقة باتفاقية الهدنة الموقّعة مع إسرائيل في العام نفسه، تثبت لبنانية المزارع بشكل لا يقبل التأويل.

وتشير الوثائق التي يحتفظ بها الجيش اللبناني، وبعضها أُعيد تقديمه مؤخراً من قبل السفير الفرنسي، إلى أن مزارع شبعا تمتد على طول يقارب 24 كيلومتراً، ويتراوح عرضها بين 13 و14 كيلومتراً. وهي منطقة جبلية وهضبية تتدرج من علو 1200 متر عن سطح البحر في مزرعة برختا إلى مناطق منخفضة كمزرعة المعز. وتحتل إسرائيل حالياً 12 مزرعة من هذه المزارع، وتقيم فيها مواقع عسكرية ومراقبة بين جبل السماق وجبل روس من الشمال ووادي العسل من الجنوب.

وبالاستناد إلى هذه الوقائع، فإن أي طرحا لتبادل أراضٍ هو خرق فاضح لحق الشعوب في تقرير مصيرها، الذي يُعتبر من المبادئ الجوهرية في القانون الدولي. كما أنه يُهدر حقوق أصحاب الملكيات الخاصة في تلك المنطقة، الذين تعود ملكيتهم إلى عقارات مثبتة بمستندات قانونية. فلا يحق لأي قوّة عظمى أو طرف خارجي أن يساوم على حدود الأوطان، أو أن يقترح تغييرها على أساس توازنات سياسية أو عسكرية آنية.

في ضوء ما تقدّم، يثبت أن الحفاظ على لبنانية مزارع شبعا ليس مسألة وطنية فحسب، بل هو موقف قانوني ودستوري يستند إلى قواعد القانون الدولي ومبادئ العدالة التاريخية. ومن هنا، فإن أي تسوية لهذه المسألة ينبغي أن تتم عبر مفاوضات دولية متوازنة، بالتنسيق مع الأمم المتحدة، ومع الجانب السوري للحصول على توقيع رسمي يُثبت لبنانية المزارع، وتسليمه للمنظمة الدولية لتأكيد المطلب اللبناني بإنهاء الاحتلال.

إن كل مواطن لبناني له الحق في العودة إلى أرضه المحتلة، وبالمناسبة أحد أصدقائي الذي هو أستاذ جامعي مرموق من مزارع شبعا، فهل يجوز لنا المساومة على حقه بأرضه تحت أي ظرف؟ في حين أن الأرض، في المفهوم القانوني والوطني، ليست سلعة قابلة للتبادل، بل هي كيان وهوية وانتماء، يُدافع عنها بالقانون والسياسة والمقاومة المشروعة. ومزارع شبعا ستبقى عنواناً لهذا الحق.