دوّت صيحة “اللّه أكبر” بكثافة في فيديوات قتل المواطنين الدروز التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي إثر أحداث السويداء. بهذا تكون الكارثة اثنتين: أن تقع الجريمة؛ وأن يظنّ مرتكبوها أنّهم يرضون دينهم بها. ومن تفجير مراقد الأئمّة الشيعة بالعراق ومجازر الزرقاوي هناك، إلى جرائم النصرة والقاعدة بحقّ الدروز بالحرب الأهليّة السوريّة قبل الأحداث الأخيرة، إلى إبادة الأيزيديّين بسنجار، ومقتلة العلويّين مؤخّرًا، وصولًا طبعًا إلى سلسلة طويلة من استهداف “النصارى” كان آخرها التفجير الانتحاري بكنيسة مار الياس بسوريا، خلّف التشدّد السنّي ويخلّف وراءه سلسلة طويلة من الجرائم التي يشيب لها الولدان.
السكوت عن الحركات السنيّة المتطرّفة بالمنطقة، من أساطينها الأوائل مع سيّد قطب وعبدالله عزّام وأسامة بن لادن، إلى حاكم سوريا الجولاني حاليًّا، ليس خيارًا. وأيّ خيار يأخذه دروز سوريا اليوم – وأيّ جماعة أخرى يهدّدها الجهاديّون بوجودها – مبرّر، ما بقي بحدود الدفاع عن الذات، لا الاعتداء على الآخرين
يبقى أنّ أنصار المحور الشيعي بالمنطقة هم آخر من يحقّ لهم الشكوى من ارتكابات المتشدّدين السنّة للأسباب التالية. أوّلًا، الجرائم التي ارتكبها المحور الشيعي بحقّ المكوّنات السنيّة بسوريا والعراق ولبنان – وسواها – تفوق بأضعاف كلّ ما ارتكبه متشدّدو السنّة. وينبغي تذكير المعلّقين الشيعة الذين ذرفوا دموع التماسيح على ضحايا الدروز بالسويداء مؤخّرًا بأن بشّار الأسد أشرف منذ العام 2011 على قتل نصف مليون سوري، جلّهم من السنّة. ينبغي تذكيرهم أيضًا أنّ “حزب اللّه” أرسل آلاف المقاتلين إلى سوريا أوغلوا إلى جانب بشّار الأسد بالدم السنّي هناك.
كما ينبغي تذكيرهم بعشرات الجهاديّين الذين كانوا بسجون حليفهم بشّار الأسد مطلع الحرب الأهليّة السوريّة، وأطلق سراحهم تحديدًا لأنّه أراد للثورة السوريّة أن ترخي لحيتها – منهم علي موسى الشوّاخ (أبو لقمان)، الذي صار بعد إطلاقه من السجن قياديًّا بارزًا بداعش، وقائد “جيش الإسلام” زهران علّوش، ومؤسّس “أحرار الشام” حسّان عبّود، وسواهم. من هذا سجلّه ليس بموضع إعطاء النصائح حاليًّا، وأن يفعل، فلأنّ الوقاحة من شيمه، كما الإجرام. على المستوى الأخلاقي المحض، أنصار الخامنئي وحسن نصراللّه وميليشيات الحشد الشعبي وسائر القوى الشيعيّة المشابهة بالمنطقة مدانون بجرائم أعتى بعد من جرائم داعش والنصرة والقاعدة.
وعلى المستوى النفسي – السياسي، شكّلت ارتكابات المتطرّفين الشيعة مادّة دسمة استخدمها نظراؤهم السنّة لتجييش النفوس، واستجلاب المتطوّعين إلى صفوفهم باسم الدفاع عن جماعتهم.
من جهة ثانية، ينبغي التذكير أيضًا بأنّ الموجة الإسلاميّة السوداء التي تخيّم على المنطقة منذ عقود أطلقها انتصار الخميني بإيران عام 1979. صحيح أنّ الحركة الإسلاميّة الأمّ، أي الإخوان المسلمين، أسّسها بمصر داعية سنيّ هو حسن البنّا، قبل الخميني بعقود. ولكنّ انتصار الخميني أوحى للحركات الإسلاميّة بأنّ إمكانيّة الفوز واستلام السلطة حقيقيّة. وما كان قبل الخميني طرحًا نظريًّا، صار بعده برنامج عمل يتوثّب للحكم.
وليس من قبيل الصدف أن يحتلّ جيهان العتيبي والجهاديّون السنّة الحرم المكّي بالسعوديّة بتشرين الثاني 1979، أي بعد أشهر قليلة من عودة الخميني إلى إيران بشباط من العام نفسه. ولا هو من الصدف أن يكون سعيد شعبان، أخطر القادة الإسلاميّين اللبنانيّين السنّة وأشرسهم بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، مقرّبًا من الخميني. ولا تتّسع هذه العجالة لتفنيد تأثير الخميني على المتطرّفين السنّة، سوى تكرار القول إنّ محوره آخر من يحقّ له الشكوى منهم.
باختصار: دموع التماسيح والعواطف النبيلة التي يبديها المعلّقون الشيعة بلبنان مؤخّرًا تجاه الدروز والمسيحيّين والأقليّات الأخرى مردودة بدون شكر. والتحجّج بأحداث السويداء للعودة إلى المقولة الممجوجة بأنّ سلاح “حزب اللّه” ضمانة الأقليّات بوجه التطرّف السنّي لا يستحقّ أكثر من ابتسامة. نعم، “حزب اللّه” اليوم عدوّ الجهاديّين السنّة؛ ولكنّ عدوّ عدوّي بهذه الحالة ليس صديقي.
