يجب الاعتراف بأن الطائفة الشيعية مأزومة، وكل محاولة من خارجها لمساعدتها على الخروج من حال التأزيم، سيزيد من إقفالها على ذاتها. لقد سلَّمتْ أمرها لماضي الفجيعة في تراثها، حيث وإن دلَّت الحقائق والمنطق السليم إلى اتجاه أوجبت الفجيعة الذهاب إلى الاتجاه المعاكس.
قبل الحرب الأهلية عام 1975 رفع الشيعة شعار المحرومين، وبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة ساد في التداول السياسي وصف “الطائفة الجريحة”، وعندما احتدم النقاش في شأن قانون الانتخابات ابتدع نبيه بري مصطلح محاولة عزل الطائفة.
خمس وثلاثون سنة من فائض القوة يتناساها “الثنائي الشيعي”، وكأنها لم تكن. فرصتان خسرتهما الطائفة المأزومة، ومعها كل اللبنانيين في محاولة إخراج الشيعة من دائرة الارتهان لمشاريع خارجية فاشلة بكل المقاييس.
ورغم أن تجربة الإمام موسى الصدر لم يتح لها الوقت الكافي لتتبلور بسبب خطفه في ليبيا، فالاتجاه كان إلى طريق رفع “المظلومية” بالانخراط في المشروع اللبناني، بحيث لا يكون الشيعة وقودًا في مشاريع اليسار الدولي والتجاذبات العربية وخصوصًا بين منظمة التحرير الفلسطينية ونظام حافط الأسد.
كيف لم يستطع حافظ الأسد حماية الصدر بعد خطفه رغم التحالف الوثيق مع معمر القذافي؟ هناك من يقول اليوم إن التواطؤ كان مشتركًا بين النظامين للتخلص من قيادي يتجه بالشيعة إلى استقلالية القرار. وهناك من يُشبّه ارتماء نبيه بري بأحضان نظام الأسد بعد خطف الإمام، بما حصل مع وليد جنبلاط بعد قتل والده كمال جنبلاط. الاثنان آثرا السلامة عندما شعرا بأنهما أضعف من المواجهة.
بعد سنوات قتل المئات في حرب “حركة أمل” المسنودة من نظام الأسد و”حزب الله” فصيل إيران المسلح في لبنان، ولم يرد بري أن يقتدي بالمنحى المستقل للإمام الصدر واقتنع بالدور المرسوم خوفًا من مصير محتوم، وتقاسم نظام الأسدين وإيران القرار الشيعي.
بارقة أمل جديدة برزت مع نائب الصدر الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي وقبل أن يخطفه الموت هذه المرة، لا القذافي أو بشار الأسد، ترك الوصية الثمينة التي طلبت من الشيعة الاندماج في الأوطان العربية وعدم الانسياق وراء المشاريع الخارجية.
ما يؤسف له أن نبيه بري وما بلغ من العمر والتجارب التي عاشها لا يحاول الرجوع إلى معلمه وملهمه الإمام الصدر، ويكتفي بلعب دور الناطق الرسمي باسم “حزب الله”، ويجاري نظرية نعيم قاسم في كربلائية غير صحيحة في مكانها وزمانها اللبناني.
بري الذي حارب “حزب الله” وقال يومًا إن هذا الحزب قتل من “أمل” أكثر مما قتلت إسرائيل، يقود حركته والأهم طائفته في الاتجاه المعاكس لمنطق التاريخ حيث ينعم الشيعة بحقهم في بناء المشروع اللبناني بدل الغرق الجديد في متاهات الفجائع.
وبعكس ما يروّج خلاص الشيعة يبدأ من داخل صفوفهم، والكلام على ضرورة أن تحتضنهم الدولة في غير مكانه، لأن لا معنى لدولة لا تحتضن مواطنيها.
على ما سبق تبدو أخطار أن تجدد إسرائيل حربها أقل من بقاء الطائفة الشيعية خارج مراجعة مسار تاريخي يُراد له “عزل” مدرستي الصدر ومهدي شمس الدين، في بعديهما اللبناني، لمصلحة البقاء في التبعية للولي الفقيه في إيران.
