IMLebanon

كي لا تكون عظة الراعي «صرخة في واد»؟!  

وضع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي في عظته أول من أمس الأحد بمناسبة العيد الوطني للعائلة في البترون اصبعه على الجرح باعلان موقفه اللافت والبالغ الوضوح والجرأة والتجرد كما والانحياز الى الشعب اللبناني، وتسميته السلطة بالاسم، بأنها «أوصلتنا اليوم، ربما عمداً، وهذا أخطر وأدهى، الى شفير هاويتين: التمديد للمجلس النيابي.. والفراغ في السلطة التشريعية الذي يدخل البلاد في المجهول..».

ما قاله البطريرك الراعي لم يكن جديداً في مواقفه، وهو الذي دأب منذ وصوله الى موقعه الروحي على حث السلطة على العمل من أجل «تأمين خير الشعب كله..» من غير تمييز بين طائفة وطائفة، مذهب وآخر، منطقة وأخرى.. و«السهر على كفاية معيشته وراحته وحمايته من الأزمات السياسية والأمنية..» لكنه، وصل الى حيث لا يشتهي والى حيث لا يريد والى حيث لا مصلحة للشعب.. ليقول وبالفم الملآن،وعلى مسمع من كل العالم، القريب والبعيد، «ان هذه السلطة أدخلت لبنان ف ي المجهول..».

لم يأت اتهام البطريرك «السلطة» (بجناحيها التشريعي والتنفيذي، بل والاداري أيضاً) ارتجالاً.. وهو يعرف قبل غيره، ان ما آلت اليه الأوضاع لم يأتِ من فراغ، ولم يكن ابن اللحظة.. والتدقيق في كلام سيد الصرح يبين ان «هاتين الاولويتين حكما نتيجة الارتهان للمكاسب الخاصة والعبث بمصير الدولة وكيانها وشعبها.. فلقد تمادت الجماعة السياسية عندنا فوق المقبول في عدم الاتفاق على قانون للانتخاب يكون لصالح الشعب والبلاد..».

لم يثر كلام البطريرك أية ردود فعل مباشرة وفورية، وقد اصطف في الصف الامامي ممثلون عن القيادات السياسية وفاعليات، وفي مقدمهم رئيس «التيار الحر» (وزير الخارجية) جبران باسيل ممثلاً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.. الذي يمضي في وضع الشروط و«الضوابط» لقانون الانتخاب الذي تتعدد صيغه، ولم يصد بعد الى النتيجة المتوخاة.. وهو أجاد اللعب على العواطف والغرائز الطائفية بعناوين «التأهيل» و«لضوابط» التي من بينها «عدم فرض أي طغيان بالعدد والأكثريات.. واحترام خصوصيات جميع المكونات وصولاً الى أصغرها والخصوصية مذهبية ومناطقية.».

لم يعد سراً ان الخطاب، الذي احترفه الوزير باسيل شأنه في هذا شأن سائر القوى التي تلعب على الأوتار الطائفية والمذهبية يستند الى قاعدة أساسية وهي تعزيز المخاوف المسيحية من الأكثرية الاسلامية.. وهو بدل ان يعزز الخطاب الوطني، والانتماء الى الوطن، حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات يسعى جاهداً الى التفتيش بـ«السراج والفتيلة» ليعزز من قناعاته التي هي بالدرجة الأولى «نتيجة الارتهان للمكاسب الخاصة..» على ما يقول البطريرك..

لقد كان للبطريرك الراعي، ومنذ وصوله الى سدة الصرح، مواقف وطنية أحدثت نوعاً من الانقلاب في خطابات بكركي.. وهو من بين رجال الدين القلائل الذين يدعون، وعن قناعة الى تحرير الدولة، والوطن والكيان من الصبغة الطائفية والمذهبية، التي لم تأتِ على لبنان بالخير، بل بالويلات وعظائم الأمور دفع فيها اللبنانيون أثماناً بالغة الخطورة والقساوة من أرواحهم وممتلكاتهم وجنى أعمارهم ومن مصيرهم، والعديد من المناطق اللبنانية ماتزال حتى اللحظة تعيش فوق ركام التهجير القمعي الذي انتزعهم بفعل القوة والقهر والتصلب الطائفي من أرضهم، أرض ابائهم وأجدادهم ولم يعودوا اليها بعد، على رغم مرور سنوات على «انتهاء الحرب الأهلية» او ما سمي بـ«حروب الآخرين على أرضنا..».

حاول البطرير أن يجمع قادة الطائفة المارونية – السياسية على برنامج وطني واحد وموحد، ولم يكن جف حبر اعلان بكركي بعد، حتى توزع «القادة»، كل  وفق مصالحه وارتباطاته و»تحالفاته» العابرة لحدود الأوطان والقارات.. ومن أسف، ان هؤلاء «القادة»، وبغالبيتهم الساحقة، لم يعيروا اهتماماً يذكر لدور البطريرك ورعايته العديد من الاجتماعات واللقاءات حتى كانت ردة فعل رفض تكرار الدعوة الى لقاءات أخرى..

من الطبيعي، في بلد كلبنان، يوصف بأنه «ديموقراطي» ان تتنوع فيه وتتعدد القوى السياسية والاحزاب، وان تتبارى في تقديم البرامج الاصلاحية، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والمناطقية، التي تشكل طعنة في صميم «الديموقراطية» وحق الشعب في ان يكون في دولة ووطن، من أول مهمات قادته العمل الدؤوب على معالجة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بل والأمنية، لاسيما وان لبنان ليس جزيرة منعزلة عن محيطه المشتعل بحروب كونية.. «ان تنمية وتفعيل الهويات الدينية والطائفية والمذهبية، واستقلال ما تعززه من هواجس ومخاوف وكل ما هو سلبي..» لن تساهم بغير تفكيك الروابط الوطنية والاجتماعية التي يفخر بها لبنان،  وتزيد من المعوقات والعقبات في سبيل وحدة الدولة ومؤسساتها كافة.. ولن تكون ذات دور ايجابي في مكافحة الفساد الذي يتحلل ويتمدد في شرايين الدولة والمؤسسات كافة..

ان العالم يتطلع الى لبنان بعين القلق، وهو يتابع المناكفات المصاحبة للعمل على انجاز قانون للانتخابات النيابية جديد، وهو يرى ان البلد بات في وضع مصيري للغاية والممارسات اليومية للأفرقاء السياسيين تزيد من تعميق الشرخ بين اللبنانيين، أبناء الوطن الواحد، هذا عدا الكلفة التي يدفعها اللبنانيون جراء ذلك وهم على أبواب فصل الصيف..

لقد كان ينظر الى «الدولة اللبنانية» على أنها الدولة الأكثر تقدماً في المجال الديموقراطي بين سائر الدول العربية، والمشرقية.. لكن خرق هذا التصور لم يكن بلا نتيجة وامكانية محاسبة المسؤولين عن هذا التدهور بات شبه مستحيل والمال كما الفساد يخيم على  الاستحقاقات النيابية مازاد الطين بلة.. وكل ما يأمله اللبنانيون ان لا تكون صرخة البطريرك الراعي «صرخة في واد».