لَفتني تنويه زميل عربي في إحدى القنوات الفضائية التركية الرسمية الناطقة باللغة العربية بمضمون أجوبتي عن أسئلته خلال محاورتي في هذه القناة عن لبنان ومصير انتخابات رئاسة الجمهورية فيه، خصوصاً أنني قاربتُ فيها مواقف بعض الدول والجهات الاقليمية والدولية المؤثرة عادة في هذا الاستحقاق الدستوري ـ السياسي.
نوّه هذا الزميل بإظهار الرأي والرأي الآخر من دون تحيّز لفريق لبناني ضد آخر، مشيراً الى انّ القناة زوّدت توجيهات بهذا المعنى من الجهات المعنية، تشدد على أن تُظهر الحوارات الرأي والرأي الآخر، وتوجيه المتحاورين في هذا الاتجاه.
ربما تعكس هذه التوجيهات أنّ تركيا تعيش هذه الايام مرحلة «إعادة انتشار» في خياراتها، إذا جاز التعبير، وذلك في ضوء المعطيات المتلاحقة حول الحراك الروسي لإنجاح الحوار بين النظام السوري والمعارضة في إيجاد حلّ الازمة السورية ومصير المفاوضات في شأن الملف النووي الايراني بين ايران ومجموعة دول الخمسة زائداً واحداً التي ستكون محطتها ما قبل الأخيرة في 16 آذار المقبل. وتبدو أنقرة وسط هذه المعطيات كأنها تستعد لمواجهة احتمالَي حصول الاتفاق وعدم حصوله.
ومثلما يرغب الرئيس باراك اوباما في حصول هذا الاتفاق على رغم مواقفه الملتبسة إزاء ايران حيناً والمتشددة احياناً، فإنّ طهران راغبة من جهتها في هذا الاتفاق ايضاً، ولكنها في الوقت نفسه ترفض أي تمديد جديد للمفاوضات، وهي ستتعاطى هذه المرة بموقف «إمّا اتفاق او لا اتفاق»، خصوصاً بعدما نالت بجدارة مقعدها في نادي الدول النووية، وقد وطّن الايرانيون أنفسهم على مواجهة الاحتمالَين، إذ في إمكانهم ان يواجهوا احتمال عدم الاتفاق ومضاعفاته، خصوصاً انّ لديهم تجربة لأكثر من ثلاثين عاماً مع الحصار والعقوبات والتهديدات الاقليمية والدولية، وفي إمكانهم ايضاً أن يلاقوا حصول الاتفاق بكثير من السلاسة لأنهم أعدوا العدة جيداً لهذا الأمر على كل المستويات.
ويبدو لمَن يزور تركيا هذه الايام أنّ الأتراك في حركتهم السياسية، وحتى في تحركاتهم العسكرية الميدانية وتعاطيهم مع قوى المعارضة السورية والتنظيمات المتشددة لا يسقطون علاقتهم مع ايران من حساباتهم، على رغم عضوية تركيا في حلف «الناتو» وعلاقتها الحذرة مع الاتحاد الاوروبي الذي لم يقبلها حتى اليوم عضواً فيه، وكذلك علاقتهم مع الولايات المتحدة الاميركية التي تمرّ دوماً بين مَدّ وجذر بسبب طريقة التعاطي مع الازمة السورية خصوصاً والازمات الاقليمية عموماً.
الايرانيون لا ينكرون حرصهم الدائم على العلاقة مع تركيا حزب «العدالة والتنمية» على رغم الاختلاف الشديد في موقف الطرفين من الازمة السورية، فطهران تدعم النظام السوري الحليف لها بقوة، فيما أنقرة تعمل بكلّ ما أوتيت لإسقاط هذا النظام ولا تنكر هدفها هذا سراً وعلناً، ولكن في مكان ما يُحاذر الاتراك هذا الامر لئلّا تتعرض مصالحهم السياسية والاقتصادية الكبيرة مع ايران للخطر، هم يرغبون بشدة في سقوط الرئيس بشار الاسد، ولكنهم يدركون أنه من دون تحقق رغبتهم هذه صعوبات كبيرة منها الدعم الايراني الكبير له والموقف الروسي الداعم له ايضاً، ولذلك يتمنّون ان يحصل هذا السقوط على يد غيرهم إذا كان في إمكانه.
ولم يَرقهم ما صدر قبل اسابيع قليلة من مواقف اميركية تؤكد انّ بقاء الرئيس السوري ضرورة لتحقيق الحل السياسي للأزمة السورية على رغم أنّ هذه المواقف أُشفِعت بعبارة «عدم الاعتراف بشرعيته».
يرغب الاتراك في أن تستعيد العلاقة بينهم وبين المملكة العربية السعودية طبيعتها في ظل عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كان زار أنقرة عام 2013 ووقّع اتفاقات اقتصادية وعسكرية مع الجانب التركي، ولكنّ أنقرة تفترق مع الرياض في الموقف من مصر عبد الفتاح السيسي الذي أطاح حكم «الاخوان المسلمين» برئاسة محمد مرسي الذي كانت تربطه بتركيا حزب «العدالة والتنمية» الاخواني علاقات استراتيجية.
واذا كانت الرياض تتلاقى وأنقرة في الموقف الداعي الى إسقاط الاسد، فإنهما تختلفان في هذا التلاقي مع مصر السيسي الذي يرفض سقوط النظام السوري ويعتبر ذلك خطراً على الامن القومي لمصر، على رغم انّ السيسي ونظامه حظيا ولا يزالان بدعم الرياض منذ إطاحة مرسي.
ولذلك، فإنّ دخول الاتراك عسكرياً الى الاراضي السورية الذي اقتصر على هدف نَقل رفات سليمان شاه جد السلطان عثمان الاول مؤسس الامبراطورية العثمانية، كان يمكن أن يعطى تفسيرات كثيرة لو انّ القوات التركية التي دخلت الى الشمال بقيت متمركزة فيه، لكنّ البعض فسّر هذا الدخول على انه مثابة «اختبار» تركي للموقف الاميركي وما اذا كان مستعداً لتغطية اجتياح بَرّي للأراضي السورية. ولكنّ عودة تلك القوات من حيث أتت دَلّت الى أنّ أنقرة ليست في وارد هذا الاجتياح، أو أي اجتياحات موضعية في المنطقة السورية الحدودية.
والاعتقاد السائد في الاوساط التركية المتابعة، مثلما هو سائد في الاوساط الاقليمية عموماً، هو انّ الجميع ينتظرون مصير المفاوضات بين ايران والدول الغربية في 16 آذار المقبل، إذ في ضوء نتائج تلك المفاوضات يمكن لكلّ فريق تحديد خياراته المستقبلية.
وغالباً، فإنّ تركيا وغيرها من دول المنطقة تعتقد انّ الاتفاق اذا حصل سيُطلق حلولاً سياسية للأزمات الاقليمية، وفي هذه الحال قد يكون ما يجري في الميدان هنا وهناك في سوريا وغيرها من الممهّدات الضرورية لتلك الحلول.