مسعى نواب الشمال لفرملة التمدّد السوري
حاجز سوري على طريق البترون – جسر المدفون في 26 آب 1978
كان واضحًا أن الأمور تتسارع في الشمال، وسيوسّع الجيش السوري انتشاره وهذا ما أكده قائد الجيش آنذاك فيكتور خوري وجوني عبدو وسامي الخطيب لمراجعيهم، فسارع النواب حبيب كيروز وجورج سعاده وبطرس حرب وطارق حبشي وجبران طوق للقاء الرئيس الياس سركيس، علّهم يستطيعون إبعاد هذه الكأس عن مناطقهم.
كان الردّ السوري الذي نقله المقدم سامي الخطيب واضحًا: الانتشار سيستكمل في منطقة دير الأحمر وكامل محافظة الشمال ولا استثناء، ومما قاله للنواب: فليدخل الجيش السوري بهدوء من دون خسائر في الأرواح والممتلكات، وبعدها نرى ما يمكن فعله. لم ييأس النواب من محاولة تأخير الانتشار فتكثّفت الاتصالات.
منطقة البترون
يقول الرائد جان القاصوف الذي واكب أدق تفاصيل الانتشار في الأقضية الشمالية المسيحية بحكم موقعه وقتها في الشعبة الثانية (مديرية المخابرات) في الشمال، ومسؤولًا عن هذه المناطق: على أثر ما جرى في إهدن، تأكد لنا أن الرد السوري سيكون في الشمال، لكن بقي عندنا قطبة غير واضحة حول وضع مناطق البترون وبشرّي ودير الأحمر، هل هي ضمن الخطة السورية، أم سيتم إلحاقها بالمنطقة الشرقية؟
على أثر إقرار الخطة الأمنية في 28 حزيران 1978، تمركزت القوات السورية في القرى البترونية الساحلية الواقعة على الشاطئ، ولم تتقدم صعودًا إلى أي بلدة أخرى، ورغم المعارك الطاحنة التي حصلت في تموز وآب ووصول القذائف السورية إلى تخوم منطقة جبيل، ظلّت منطقة البترون بعيدة عن تلك المعارك، حتى أنه لم يتم تسجيل إطلاق قذيفة سورية واحدة من الشمال باتجاه المنطقة الشرقية، علمًا أن المدافع السورية زرعت المنطقة الشرقية بعشرات آلاف القذائف. ومرد ذلك، أنّ ضغوطًا مارستها شركات شكا وسلعاتا لتجنيب المنطقة أي خضات أمنية قد تؤثر عليها، إضافة إلى الضغوط التي مارستها عصابات تهريب المخدرات.
لدى سؤاله عن قصة عصابات المخدرات، يبتسم ويجيب: قصة كبيرة جدًا نرويها لاحقًا (عاد ورواها بالتفصيل).
يضيف: رغم الضغوط الكثيرة التي كانت تتعرض لها القيادة السورية في لبنان لتوسيع رقعة انتشارها في منطقة البترون، ظلت تؤخّر الانتشار، ومرادها الحقيقي عدم الانتشار في قرى البترون الوسطى والجردية، متحججة بعدة حجج منها الهدوء التام في تلك القرى، وعدم وجود أي مراكز حزبية مسلحة.
كان في قناعتنا وهذا ما لمسناه من القيادات السورية، أن لا مصلحة لهم بتوسيع انتشارهم لأسباب عدّة:
سيطروا على الساحل عصب المنطقة الاقتصادي والسكاني والعمراني وتحكموا بطريق بيروت – طرابلس.
لا مصلحة لهم بدخول قرى وبلدات صغيرة فقيرة مهمشة ونشر جنودهم فيها.
لا مصلحة لهم بتوسيع خطوط التموين عبر طرقات وعرة وضيقة خاصة في الشتاء.
منتصف شهر آب أصبح من الواضح أنه لم يعد ممكنًا تأجيل ما خطط لمنطقة البترون.
يتوقف الرائد القاصوف عند اللقاء الذي حصل في مكتب آمر فصيلة درك البترون، فيشير أولًا إلى أن اختيار القيادة السورية للمقدم شحاده درة، يعني أنها لم تكن تريد افتعال أي حادث، فهذا المقدم معروف بدبلوماسيته وهو الذي قاد المفاوضات الناجحة مع العائلات البشراوية خلال الانتشار السوري في منطقة بشري. ومن المؤكد أن المعلومات التي قالها لم تكن بمبادرة منه، بل كان الهدف منها إفهام المسؤولين الكتائبيين أن موعد الانتشار السوري في قرى البترون أصبح وشيكًا، وبالتالي مواجهة القوات السورية ضرب من الانتحار.
يبدو أن قيادات منطقة البترون فهمت الرسالة، وبحسب المعلومات التي وصلتنا، زار نائبا البترون جورج سعاده وبطرس حرب أكثر من مرة قصر بعبدا، والتقيا قائد الجيش فيكتور خوري ومسؤول المخابرات السورية في لبنان العميد محمد غانم، وقائد قوات الردع العربية المقدم سامي الخطيب، لمحاولة تجنيب المنطقة أي خضة أمنية، وإمكانية إلحاقها بالخطة الأمنية للمنطقة الشرقية التي يتسلمها الجيش اللبناني.
كما استطاع جورج سعاده فتح خط غير مباشر مع الرئيس سليمان فرنجية لمعالجة وضع منطقة البترون، عبر بعض فعاليات مدينة البترون التي تربطها علاقة قوية بفرنجية، مثل اسطفان عيسى.
كانت الأجواء تشير إلى قرب التوصل إلى تسوية:
انسحاب المقاتلين من قرى وسط وجرد البترون؛ من هنا كان إنشاء ثكنة كتائب البترون في دير القطارة الواقع في منطقة جبيل وتجمعات أخرى في بعض قرى جبيل، وليس في أي بلدة في جرود البترون.
تبقى القوات السورية في مواقعها التي تمركزت فيها أواخر حزيران، على أن تُسيّر دوريات في قرى البترون الوسطى والجردية من دون إقامة أي مراكز عسكرية.
يبقى الأهالي في قراهم ولا يتم التعرض لهم.
دعمت هذه التسوية بقوة إدارات شركات شكا وسلعاتا ووافقوا على المساهمة في مصاريف ثكنة القطارة والمراكز السورية.
كان كل شيء تحت السيطرة وبعد ظهر الثلثاء 22 آب 1978 توجّه النائبان سعاده وحرب إلى منطقة البترون لطمأنة الأهالي.
في هذه الزيارة كان مع جورج سعاده خريطة خط سير الدورية السورية التي ستنطلق صباح اليوم التالي وتسلمها من العقيد محمد غانم وكان لدى مخابرات الجيش في الشمال نسخة منها.
كان خط سير الدورية من أميون – بزيزا – دير بلا – بساتين العصي وتبدأ نزولًا إلى حلتا – صورات – عبرين – البترون وهي طريق البترون – تنورين الرئيسية.
بعد وصول الدورية السورية إلى البترون، أشار تقريرها إلى أنها لم تشاهد أي مظاهر مسلحة ولا أي مسلحين، ومن هنا كان جورج سعاده جازمًا في اجتماعه مع مسؤولي الكتائب في عبرين ليل ذلك الثلثاء، من أن أي تعرض للدورية السورية معناه خراب منطقة البترون.
نام الجميع، كل شيء تحت السيطرة، وصباح الأربعاء 23 آب تحرّكت أكثر من سيارة مدنية تقل مسؤولين كتائبيين وجنودًا من الجيش مهمتهم مواكبة الدورية من بعيد وتحذير من يجب تحذيره.
انتهى النهار ولم تظهر الدورية، فاعتقدنا أنها ستصل صباح الخميس 24 آب”.
ماذا جرى يومها على طرقات البترون الوسطى؟
قرابة ظهر ذلك الأربعاء، انطلقت فجأة 3 دوريات سورية كل دورية مؤلفة من جيب وشاحنة:
من تحوم عند جسر المدفون صعودًا إلى سمار جبيل وعبرت من أمام ثكنة المدينة الكشفية نزولاً إلى إده – البترون.
من مبنى الريجي أعلى البترون صعودًا إلى مفرق اجدبرا، حيث توقّفت لبعض الوقت وعادت إلى موقعها.
من كفتون في القويطع – الكورة نزولاً إلى نهر الجوز فبقسميا وأكملت صعودًا إلى جبلا واستدارت إلى كفرحيّ، حيث توقّفت عند كنيسة مار سابا قرب مركز الأحرار من دون الدخول إليه وعادت إلى كفتون.
وفيما الدوريات السورية تتقدم على طرقات البترون، تم إخلاء الحواجز وإبلاغ ثكنة القطارة، لكن السوريين تعاملوا مع من التقوهم بلطف وكانوا يردّون التحية وشاهدوا أكثر من شاب في ثياب عسكرية من دون التعرّض لأي منهم.
في بقسميا توقّفت الدورية عند مفرق القويطع لبعض الوقت، قبل عودتها إلى الكورة، فتقدم أحد الرجال مرحّبًا بهم وسألهم إن كان يستطيع خدمتهم؟
رد الضابط بلطف: “إنهم يبحثون عن لصوص سرقوا أحد البيوت ليلًا في كفتون”.
تم اطلاع جورج سعاده على تأخر الدورية السورية المنتظرة وما جرى على طرقات المنطقة، فطلب بعض الوقت لمراجعة محمد غانم.
استفاق الناس صباح الخميس 24 آب على خبر مجزرة جرت مع ساعات الصباح الأولى في وادي نهر الجوز ما بين كفتون وبقسميا راح ضحيتها 7 شبان من كفرحيّ وشاب من حالات.
ماذا جرى في وادي نهر الجوز؟
في الوادي معمل لتوليد الكهرباء تملكه شركة الترابة في شكا، وفي هذه الفترة من كل سنة، تجري أعمال صيانة فيه وترميم حيطان الدعم ويعمل العديد من شباب القرى المجاورة في هذه الورش.
مساء الأربعاء، وصلت معلومات مصدرها مخابرات الجيش أن الوضع في القويطع غير مطمئن وتنصح بعدم قدوم الشباب في اليوم التالي إلى موقع العمل باعتبار أن معظمهم حزبيون (كتائب وأحرار).
تم تبليغ العمال بعدم توجههم إلى محيط نهر الجوز، فأبلغوا وكلاء الورش التي يعملون فيها، لكن شاهين أبي شاهين من جبلا حاول إقناع عمّاله بالذهاب معه، لأنه لا يزال أمامه يوم واحد وينتهي المشروع فرفضوا، فتوجه إلى ساحة كفرحي واتفق مع 7 شبان كبيرهم لم يتجاوز 18 من عمره للعمل معه، فوافقوا، وكل هدفهم تحصيل بعض النقود لعيد مار سابا شفيع بلدتهم.
صباح اليوم التالي، انطلق مع عماله الجدد إلى الموقع، وما كاد يدخل المفرق، حتى انهمر الرصاص على السيارة فقتل الشبان السبعة ونجا شاهين وشاب يدعى الياس فرسان أحضره معه من بلدته بأعجوبة، بعد أن مزّق الرصاص جسديهما.
على صوت الرصاص أطل شاب من حالات يعمل في مزرعة مجاورة يستطلع الوضع فصرعته رصاصة.
في تقرير قوى الأمن الداخلي الذي نشرته الصحف المحلية نهار الجمعة 25 آب، أشار إلى أن سيارة مرسيدس رقمها 264268 يقودها شاهين منصور أبي شاهين من بلدة جبلا، تعرّضت عند السادسة من صباح الخميس لكمين مسلح في وادي كفتون، فقُتل على الفور: فادي يعقوب 18 سنة، طوني يوسف يعقوب 18 سنة، نبيل مخّول خاطر 16 سنة، توفيق مخّول خاطر 18 سنة، ريمون الياس الياس 18 سنة، بيار يوسف يعقوب 16 سنة، حنا يوسف حنا 18 سنة. وأصيب سائق السيارة بجروح خطرة. وأضاف التقرير: عُلم أن القتلى يعملون في معمل الكهرباء التابع لشركة الترابة الوطنية في شكا. وفي مكان لا يبعد كثيرًا، وُجِدَ نبيه جميل أبي شر من حالات (قضاء جبيل) قتيلاً.
يكمل الرائد القاصوف: “هزّت المجزرة الجميع، وأصبح الهّم معالجة تداعياتها، وكان صباح الجمعة 25 آب.
وصلت فجأة ومن دون أي إنذار دورية سورية إلى ديربلا قادمة من أميون مؤلفة من سيارة جيب و3 شاحنات وطوقت بيت “الكتائب” فطوقها الأهالي وشباب الكتائب وكاد يحصل حمام دم.
شربل صفير
بحر لبنان يختنق بالبلاستيك… وشباك الصيّادين فارغة من السمك
“الميكروبلاستيك” على موائد اللبنانيين… الخطر يسبح في البحر
يُصنَّف البحر الأبيض المتوسط ضمن أكثر البحار تلوّثًا بالبلاستيك على مستوى العالم، إذ تشير الدراسات إلى أنّ أكثر من 80 % من هذا التلوّث يتكوّن من جزيئات البلاستيك الدقيقة (الميكروبلاستيك)، وهي مواد بالغة الخطورة لكونها تدخل في السلسلة الغذائية للكائنات البحرية وتصل في نهاية المطاف إلى موائد البشر.
في لبنان، تكشف البيانات أنّ نحو 76 % من النفايات البحرية هي من البلاستيك، وتشمل الأغطية والزجاجات وفتات البلاستيك ومرشحات السجائر، وصولًا إلى الأكياس والعبوات والشباك الممزّقة والأحذية والملابس التي تكدّست على الشواطئ. ومع تزايد النشاط البشري على الساحل وغياب سياسات فعّالة لإدارة النفايات، تتفاقم الأزمة عامًا بعد عام، مهدّدة الثروة البحرية والاقتصاد المحلّي على حدّ سواء.
ضربة قاسية للصيّادين اللبنانيين
لم يعد البحر ملاذًا آمنًا للصيّادين، بل أصبح مصدر قلق وخسارة. النفايات البلاستيكية تدمّر الموائل البحرية التي تعتمد عليها الأسماك في التكاثر والنموّ، ما يقلّل من وفرة المصيد ويؤثر في جودته. بالإضافة إلى ذلك، تتسبّب الأكياس والزجاجات العائمة في تلف معدّات الصيد، خصوصًا الشباك، ما يؤدّي إلى ارتفاع تكاليف الصيانة ويثقل كاهل الصيّادين بالخسائر.
أبو علي، صيّاد مخضرم من ميناء صور، قال في حديث لـ “نداء الوطن”: “منذ عشرين عامًا وأنا أعمل في البحر، لكن في السنوات الأخيرة نصطاد بلاستيك أكثر من السمك. الشباك تتمزّق بسبب الأكياس والزجاجات، وهذا يكلّفنا كثيرًا. بعض الأيام نعود بلا أي ربح”.
وفي الشمال، تتكرّر المعاناة. محمود، صيّاد شاب من طرابلس، أوضح لـ “نداء الوطن”: “المشكلة ليست فقط في الكميّة الكبيرة من النفايات، حتى السمك صار أصغر وأقلّ. أعتقد أنّ البلاستيك يؤثر في غذاء السمك وصحته، وهذا ينعكس علينا مباشرة”.
تحذيرات من الميدان والبحث العلمي
تحذيرات الصيادين تتقاطع مع النتائج العلمية التي تكشف حجم الكارثة. الباحثة في العلوم البحرية الدكتورة ليلى حطوم، أكّدت في تصريح لـ “نداء الوطن” أنّ “الميكروبلاستيك موجود الآن في أكثر من 90 % من عيّنات الأسماك التي جُمعت من الساحل اللبناني، ما يشكّل خطرًا مباشرًا على صحّة المستهلكين”.
وشدّدت حطوم على أنّ “الحلّ لا يكمن في حملات التنظيف الموسمية فحسب، بل في وضع سياسات تحدّ من وصول البلاستيك إلى البحر من الأساس، مثل تقليل استخدام الأكياس البلاستيكية وتشجيع إعادة التدوير”. وأضافت أنّ استمرار الوضع على حاله “سيحوّل البحر اللبناني إلى بيئة طاردة للكائنات البحرية، ويضرب واحدة من أقدم المهن في البلاد”.
مبادرات لمواجهة الأزمة
ورغم قتامة المشهد، تشهد بعض المناطق اللبنانية جهودًا لمواجهة التلوّث البلاستيكي. من أبرزها مشروع “إزالة النفايات البلاستيكية من الشواطئ اللبنانية” الذي يهدف إلى تنظيف السواحل وتعزيز الوعي البيئي في المجتمعات المحلية. كما انطلقت مبادرات لإعادة تدوير البلاستيك وتحويله إلى منتجات قابلة للاستخدام، ما يساهم في خفض التلوّث وخلق فرص عمل في الوقت نفسه.
تهديد للتنوّع البيولوجي وأزمة اقتصاديّة
البلاستيك لا يهدّد فقط مهنة الصيد، بل يضرب التنوّع البيولوجي البحري في لبنان. فالنفايات العائمة والشباك المهملة (المعروفة بـ “أشباح الصيد”) تقتل الأسماك والسلاحف البحرية وتدمّر الأعشاب البحرية التي تشكّل مأوى طبيعيًا للكائنات. ومع تراجع مخزون الأسماك، يجد الصيادون أنفسهم أمام معادلة صعبة: تكاليف أعلى، وأرباح أقلّ، ومهنة باتت مهدّدة بالاندثار.
وفي ظلّ غياب سياسات ردع حقيقية، يبقى التلوّث البلاستيكي في البحر اللبناني قنبلة بيئية موقوتة، تدقّ ناقوس الخطر على الصحة العامة والاقتصاد الساحلي والأمن الغذائي. والسؤال المطروح: هل يتحرّك المعنيّون قبل أن يفقد لبنان جزءًا من هويّته البحرية؟
