Site icon IMLebanon

ما الحلول الممكنة بانتظار قيام الدولة؟ (1)

 

من الخطأ تحويل اتفاق الطائف إلى عنوان للمزايدة السياسية، لأنّ الإشكالية المتمثّلة بالتغييب المتواصل للدولة ليست في الطائف كدستور، إنما جرّاء عدم تطبيقه منذ لحظة إقراره.

حُرم الشعب اللبناني من العيش باستقرار وازدهار ورخاء ودولة فعلية وطبيعية بسبب الانقلاب المتمادي على اتفاق الطائف منذ 33 عاماً، ولو طبِّق هذا الاتفاق لكان استعاد لبنان حقبة سويسرا الشرق، ولكن عدم تطبيقه أبقى البلد في حالة عدم استقرار وحرب باردة تتحوّل إلى ساخنة بين محطة وأخرى، الأمر الذي ولّد نقمة شعبية ليس من الطائف نفسه، إنما بسبب عدم تطبيقه.

 

وأيّ دستور في العالم لا يطبّق على امتداد ثلاثة عقود يبدأ التفكير بالحد الأدنى في كيفية تغيير أسلوب المواجهة أو تكتيكاتها على قاعدة «لو بَدّا تشتي غَيّمت»، لأنه من غير الجائز الاستمرار في حالة الاستعصاء والتعطيل والشلل لمدى الحياة، بل هناك ما يستدعي التفكير في كيفية رفع منسوب الضغوط على الفريق المعطِّل لهذا الدستور، وبالتالي المُستهدف ليس الطائف، إنما الفريق الذي يمنع تطبيقه وسيمنع تطبيق اي دستور غيره.

 

فأين الفائدة من الحفاظ على أسلوب المواجهة نفسه بتكرار لازمة تطبيق اتفاق الطائف الذي لا يُطبّق، خصوصاً انّ الفريق الذي يخطف قرار الدولة تأقلم مع هذه المواجهة التي لم تعد تشكّل تهديداً لدوره؟ وأين المصلحة في تحميل الناس مسؤولية البحث عن نظام سياسي جديد بدلاً من تمسكها بالطائف، فيما الناس تكاد تفقد الأمل في العيش الهانئ والمستقر ومن حقوقها البديهية البحث عن الحلول التي تعيد لها مقومات العيش الكريم؟ ولماذا لا ينحصر تركيز القوى التي تريد دولة وسيادة ودستور في كيفية تطوير المواجهة مع القوى التي لا تريد دولة وسيادة ودستور بدلاً من المزايدات بين الفريق نفسه والتي تؤدي إلى إضعافه؟

 

ومن الخطيئة بمكان ان يتمسّك أي فريق بوجهة نظر محدّدة من دون ان يتسلّح بالمقابل بمعطيات او مقاربات أو رؤية واضحة تقود إلى الخروج من الأزمة، لأن الأساس يبقى في الخروج من هذه الأزمة وليس التعامل معها باليوميات، ومن مسؤولية الجميع البحث عن الحلول الممكنة بدلاً من ترداد معادلات تحوّلت، ويا للأسف، إلى خشبية، وذلك بالاستناد إلى 4 وقائع أساسية:

 

الواقعة الأولى: ان «حزب الله» ليس في وارد تسليم سلاحه، وهذا معطى ثابت ونهائي، وكل من يخطئ في هذا التشخيص يقوّي الحزب ويساهم في هدر الوقت، لأن سلاحه يشكل جزءا من عقيدته ولن يسلِّمه طوعاً، وتسليمه لن يحصل سوى نتيجة معادلات غالب ومغلوب داخلية او خارجية، وبالتالي تسليم السلاح هو وهم.

 

الواقعة الثانية: ان المجتمع الدولي لن يطبِّق القرارات الدولية بالقوة وأحلام الفصل السابع ستبقى مجرّد أحلام جميلة غير قابلة للترجمة العملية، والاهتمامات الدولية بعيدة عن لبنان، والحرب الأوكرانية تؤكِّد ان مجلس الأمن عاجز وان الدعم للدولة الأوكرانية لم يكن ليتوفّر لولا قرار هذه الدولة بالمواجهة، والشعب السوري تُرك لقدره، والاستهداف الأخير لليونيفيل أدى إلى مزيد من تطويعهم بدلاً من تخييرهم الدولة اللبنانية بين مغادرتهم او حرية حركتهم وتطبيقهم الفعلي لا الشكلي للقرار 1701. وخلاصة القول انّ الرهان على المجتمع الدولي رهان واهِم بدوره.

 

الواقعة الثالثة: انّ إيران وحتى وقت غير معروف لن تبدِّل في استراتيجيتها التوسعية النابعة بدورها من عقيدتها الدينية، ما يعني انها لن تكون في وارد التخلي عن ميليشياتها وفي طليعتها «حزب الله». وبالتالي، الرهان إما على الانهيار التلقائي للنظام بسبب عجزه عن مواكبة العصر وأزماته المتفاقمة، ولكن لا مؤشرات قريبة على هذا المستوى، وإما على انتفاضة من الداخل ما زالت غير قادرة على إسقاطه بالقوة، وإما على حرب خارجية تؤدي إلى هزيمة النظام، وهذا أمر ممكن ولكن لم يحصل بعد على رغم كثرة الكلام عنه، وإما على تسوية دولية وإقليمية مع طهران تبدِّل بموجبها بدورها مِن مزعزع للاستقرار، إلى مساهم في تعزيز الاستقرار في المنطقة، وهذا ما زال مُستبعداً جداً جداً.

 

الواقعة الرابعة: انّ المواجهة مع «حزب الله» التي بدأت فعلياً مع خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 حقّقت الحدّ الأقصى الذي يمكن ان تحقِّقه، ويستحيل على هذه المواجهة ان تنجح بنزع سلاح «حزب الله» من دون الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، كما يستحيل عليها تحييد معيشة الناس عن القرار الاستراتيجي للدولة، والتجربة أكبر برهان من اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وصولاً إلى الانهيار الحالي، فيما يستحيل القيام بالخطوات أو الإجراءات التي تكافح الهدر والفساد مع فريق يستفيد من الفوضى لتمويل بيئته وتحالفاته، وأقصى ما يمكن القيام به الحدّ من تأثيره على الدولة ومؤسساتها، ولكن هذا الحدّ لا يعني إنهاء الأزمة اللبنانية.

 

وأي فريق سياسي جدّي، لا مزايد، يجب ان ينطلق من هذه الوقائع الصلبة في محاولة للبحث عن الحلول والمخارج التي تعيد لبنان دولة طبيعية وتؤدي إلى وقف نزف الهجرة ويستعيد معها المواطن أمله بالبقاء في وطنه، ومَن يصرّ على معادلات خشبية ويرفض التفكير «خارج العُلبة» يرتكب جريمة بحق الشعب اللبناني الذي يعيش في شبه دولة وحياته بخطر وأوضاعه مأسوية.

 

فالمشكلة ليست في التصنيفات بين احتلال إيراني او خطف «حزب الله» لقرار الدولة الاستراتيجي، والمشكلة ليست في اتفاق الطائف بل في عدم تطبيقه، والمشكلة ليست بين المسيحيين والمسلمين، إنما بين فريق يريد دولة وحياة طبيعية، وفريق يريد إلزام جميع اللبنانيين بعقيدة موت، والمشكلة ليست في ردّ فعل اللبنانيين وغضبهم مما آلَ إليه مصيرهم، إنما بسبب إصرار البعض على تحريف الأزمة من أجل تسليط الضوء على نفسه بأنه يواجه من يريد الإطاحة بالنظام سعياً إلى التقسيم في مزايدة مكشوفة، فيما المشكلة الفعلية تكمن في محاولة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن الحدّ من الهجرة وتوفير مقومات الصمود للناس حفاظاً على هوية لبنان التاريخية بالتزامن مع معركة استعادة الدولة التي تُخاض من دون سقف زمني ومن دون وجود أي أفق محلي او خارجي؟

 

والإجابة عن هذا السؤال مطلوبة بإلحاح ولم تأت من فراغ، إنما بعد 18 سنة من المواجهة مع «حزب الله» والتي لم تخرج عن سياق تسجيل النقاط المتبادل في المسائل التكتية، فيما الحزب يواصل إمساكه بمفاصل الدولة الاستراتيجية، وعامل الوقت يخدم الحزب لا أخصامه، بل يراهن على الوقت من أجل تغيير الوقائع الديموغرافية التي تسرِّع سيطرته الكاملة على لبنان.

 

فالناس التي تطالب بالتقسيم والفدرالية والفصل عن «حزب الله» لا تُلام لأنه من حقها العيش بسلام واستقرار، خصوصاً انّ الأزمة اللبنانية لم تنشب أمس، بل ما زالت مستمرة منذ أكثر من خمسة عقود وفصلها الأخير مع «حزب الله» منذ 18 سنة والأمور تزداد تعقيدا ومأسوية ولا حلول في الأفق، وطالما انّ هدف اي عمل سياسي هو الناس، فمن الواجب الوطني والأخلاقي التفكير في كيفية إبقاء الناس في أرضها والحفاظ على وجودها بانتظار الظروف التي تسمح بأن يسلِّم «حزب الله» سلاحه، لأن لا دولة ولا استقرار ولا ازدهار ولا عدالة ولا حرية ولا أمن ولا دستور ولا انتظام في طل سلاح خارج الدولة.

 

فما هي الحلول الممكنة والمؤقتة التي يحافظ فيها المواطن اللبناني على نمط عيش ودولة واستقرار، بانتظار قيام الدولة الفعلية على مساحة لبنان الجغرافية؟