Site icon IMLebanon

هاتف دمشق البورجوازي

 

شريط درامي من صور الطفولة الراجفة يداهمني وأنا على بعد قارتين من مسقط الرأس دمشق. فمزارع التفاح والدرّاق في جبال مصيف بلودان العريق حيث اختبرت دهشتي الأولى وقصيدتي الأولى أيضاً، مروراً بمشهد الطابور الصباحي الطويل واليومي على أبواب الفرن الذي يقابل شرفة بيتنا في حي المهاجرين، هناك حيث نبتت أشواك وعيي السياسي المبكّر بحقيقة اعتلال الحياة المدنية في دمشق ورجاحة كفة «العسكر»، حين كنت أشهد الوقفة المذلة لأهل الحي، سيدات وشيوخاً وأطفالاً، على أبواب المخبز، بانتظار الحصول على ربطة من الخبز، في حين يتمكّن سائق سيارة جيب عسكرية تتوقف بعصبية استفزازية على الرصيف من اختراق الصفوف في برهة ليحصل على خبزه فوراً، متجاوزاً كل المنتظرين في الطابور الطويل بحجة ضرورة إسراعه للالتحاق بمهامه العسكرية على خط الجبهة – الجبهة الأهدأ في العالم التي لم تشهد إطلاق رصاصة واحدة باتجاه العدو منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة بقوة السلاح وفعل الانقلاب العسكري، وصولاً إلى مشهد جهاز «الهاتف الأسود»، الضخم والمرموق، يتربّع في صدر غرفة جلوس العائلة في منزلنا الدمشقي، ذلك الهاتف الذي كان أبي يحظّر علينا استعماله، لأي ظرف، لأنه ببساطة ملك للدولة التي ائتمنته عليه لتصريف مهام الأمن العام الذي كان يديره، طبعاً هذا كان في زمن الأمن فيه مسخّرٌ لحماية المواطن وتأمين سلامته في بلده، لا للتجسس عليه وترهيبه واختلاس خصوصيته.

 

 

صور تتشبث بجدران الذاكرة الرطبة عن بلدي سورية، أدوّرها كل يوم في رأسي حتى لا أبتعد فتُقتل… أو تبتعد فأُقتل.

 

لكن، ماذا تبقى لنا من الأثر وبقايا الصور بعد سبع عجاف من تخريب منهجي للبشروالحجر؟! ومن تبقى للعاصمة دمشق من رجالاتها، وللسياسة من أقطابها، وللثورة السورية الماجدة من صناعها الأصليين؟ بل ماذا ينتظر المستقبل السوري في ظل خسارات الميدان المتعاظمة، وخفوت التأييد الدولي للمعارضة السورية القابعة في الخارج قسراً، والانهيار شبه التام للعملية التفاوضية التي ترعاها الأمم المتحدة في ضوء القرارات الأممية النافذة؟ ومن ينقذ الحراك الثوري من كبوته، ويعيد لعملية الانتقال السياسي زخمها، ويشعل شمعة في ظلام التراخي السياسي العام الدامس؟! هل هي مسؤولية النخب المغيّبة، أم الشارع الشعبي المنهك، أم الدول الصديقة إقليمية كانت أو غربية؟

 

للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء لنضع يدنا على أسباب الفراغ السياسي في الساحة السورية، الفراغ الذي امتد لعقود خلت، ما مكّن نزوع الاستبداد والطائفية السياسية من شغل حيّز أي فعل مدني ديموقراطي ممكن.

 

تعرّضت سورية، منذ مطلع ستينات القرن الفائت، إلى تفريغ منظّم وقصدي للأدمغة والكفاءات السورية وكذا لقوى الاقتصاد البورجوازية من خلال دفعها للهجرة إلى الخارج. شكّلت الطبقة الوسطى المتعلّمة والمستنيرة السورية الحامل الرئيس للحراك السياسي والثقافي والاقتصادي في سورية ما قبل النظام البعثي، وذلك في ظل نظام للسوق شبه مفتوح، وتداول معقول للسلطة ضمن حالة برلمانية صحية، وحراك ثقافي تفاعلي مع ثقافات العالم. غادرت تلك القوى والفعاليات سورية إثر سيطرة البعث الاشتراكي بنسخته العسكرية على مفاصل الحياة اليومية وتفاصيلها. انتشرت في العالم لعشرات السنين، وعاد بعضها ليلتئم على هدي وإيقاع الثورة التي حملت رياحاً للتغيير الديموقراطي المنشود للشعب السوري المكابر على وجعه، وإعلاناً لقطيعته البائنة مع الاستبداد. تتفق هذه القوى، على رغم تباعدها في المكان وافتراقها في المناهل التي شكّلت قناعاتها السياسية، على نهج هو قاسم مشترك أعظم بينها يدعو إلى الانتصار لمبادئ الثورة في تحرير الإنسان والفكر أولاً، وتفعيل دينامو الحرّيات الفرديّة، وتطبيق مبادئ الشفافية السياسية وما يترتب عليها من مساءلة ومحاسبة في ضوء تداول دوري ومقونن للسلطة، وإحياء مفهوم المواطنة في الحق والواجب، ونبذ التمييز العرقي والطائفي والمذهبي، وتفعيل مبدأ التعددية السياسية، وتمكين المرأة، وفصل السلطات، وذلك في ظل برنامج سياسي متكامل يصونه دستور جديد هو عقد اجتماعي وليد يستجيب لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان ويضمن الشراكة المتساوية لتراب الوطن بين مكوّنات الشعب السوري، دستور يعزّز مبدأ لامركزية الدولة والإدارة وينظّم الاختلاف والحقوق والواجبات المتبادلة ويفصل السياسة عن الدين، دستور هو حامل حقيقي لمشروع تحديث بعيد المدى يطاول بالتغيير والتحديث البنى التحتية، وهيكلية المؤسسات، وتموضع رأس المال، والتوزيع العادل للثروة بين فئات المجتمع والمناطق الجغرافية من دون استئثار لطائفة أو فئة أو لون قومي.

 

فصل المقال يكمن في حتمية العودة إلى جذور الحياة الديموقراطية في سورية وهي مترسّخة في ضمير تلك التجربة الوطنية البورجوازية القصيرة العمر نسبياً (الكتلة الوطنية مثالاً)، لكن الغنية بالمكونات الأصيلة للسياسة السوريّة الداخلية، واستحضار تلك الجذور معزّزة بدفع من المدّ الثوري الحيوي الذي اجتاح الضمير السوري المكابر، وقلب موازين المسلمات السياسية لنظام متهتك اختار التوريث الكئيب عوضاً عن الاحتفاء بصندوق الاقتراع، والقمع الشديد بديلاً عن الحوار الوطني، والتصفيات الثقافية والجسدية مرتَكزاً لاستمراره المَرَضي على كرسي رجله الرابعة مبتورة!