الرسالة الأميركية اليوم إلى اللبنانيين، هي: الإستقرار أم الفوضى. دائما كان الإستشعار بالفوضى مرعبا، ودائما كان التلويح بالفوضى مُرّا، ودائما كانت صور الفوضى في البلاد كارثة حقيقية، فلا دولة مع الفوضى، ولا إدارة، ولا مؤسسات، ولا اقتصاد ولا حياة مدنية، لا أسرة، ولا مدرسة، ولا جامعة، ولا نظاما عاما، لا سلطة مع الفوضى، ولا قوانين، ولا إنتخابات، ولا عمران، ولا طحين، ولا بنزين، ولا ماء، ولا كهرباء، ولا أمن، ولا أسلاك، ولا قطاعا عاما، ولا قطاعا خاصا.
هكذا تتحوّل البلاد إلى ركام، إلى طبقات من الركام. ويصيح علينا الناجي، من أعلى التلة، وهو يرى تقدم السيل: «أنجُ سعد، فقد هلك سعيد»!
أتى مورفي سابقا، منذ حين من الدهر، ونادى علينا، نادى بيننا: «الضاهر أو الفوضى». مات مخايل الضاهر، نائبا ووزيرا، وفي نفسه شيء من الرئاسة، وظلت مجموعة ضيقة من حوله ينادون عليه: «يا رئيس»!
ووقف الرئيس الأميركي جورج بوش ينادي على صدام حسين، وعلى العراق، بصوته الجهوري: «النظام أو العصر الحجري»!
وشنقوا الرئيس صدام حسين، وما ردّوا عنا العصر الحجري.
وها هو يطلّ علينا اليوم توم برّاك، المبعوث الشخصي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليقول للبنانيين، بالفم الملآن: «لبنان أو لا لبنان بالمرة»! يهدّدنا بالعودة إلى بلاد الشام، وكأن لبنان، لم يكن موجدا في ذلك الزمان! يا لضعف الذاكرة! ثم يردف القول: «نزح بل نزع السلاح شأن داخلي».
اللبنانيون على مستوى الشعب، لا على مستوى أهل السلطة وأهل الشأن من الزعماء و القيادات والمقدمين، يقولون بصوت واحد: كفى تلاعبا بمصائر الشعوب!
اللبنانيون يسألون اليوم: من الذي رخّص السلاح في لبنان؟ من الذي كان يزيل من أمامه جميع العقبات؟ من الذي أذن بفتح البوابات له وحراسة الطرقات..؟ من الذي سهّل تخزينه؟ ومن الذي تغابى عن إنشاء الأنفاق طيلة عشرات السنوات؟ من الذي تغافل عن مخابئه، وعن مصادر تمويله، وعن طرق تهريبه؟ من الذي رخّص للسلاح، على عينك يا تاجر، في كنف الطائف، وتحت قبة البرلمان؟
السلاح ليس ابن اليوم، بل عمره أكثر من نصف قرن. وحين كان اللبنانيون يقفون في وجهه ويثورون عليه، كانوا يطاردون ويطردون، ويدفعون الضريبة من مالهم ومن دمائهم ومن مدنهم ومن قراهم، ومن أرضهم.
دفع لبنان «فاتورة عظيمة»، ثمن نزع السلاح لا نزحه. سجل رقما قياسيا في عدد الشهداء الذين سقطوا على أرضه: في بيروت وفي الجبل وفي الشمال وفي الجنوب. وهُدّمت عاصمته، وهدّمت كذلك مدنه وقراه، وهجر أهله، ونشأ مجلس الإنماء والإعمار على أنقاض لبنان كله، ونشأ مجلس الجنوب على أنقاض الجنوب. فاق المهجرون في لبنان ثلاثة أرباع أهله، ولذلك نادوا على وزارة المهجرين، أثناء تشكيل الوزارات.
هذه الخسائر التي قدّمها لبنان، هي كلها خسائر نزع السلاح. وهؤلاء المهجرون، هم جميعهم ضحايا نزع السلاح. وهذه الأعداد العظيمة من المعوقين، أخذوا بجريرة نزع السلاح. وأما «المئتا ألف شهيد»، فهم كلهم شهداء نزع السلاح. فما هذا التذاكي اليوم على اللبنانيين، يا حمقى العقلاء، ويا عقلاء المجانين!
ألم يعلموا أن لبنان صار لبنانيين بسبب حملته على نزع السلاح؟! ألا يعلمون بأن جيشه إنحل وتشتّت وعانى من الإنقسام طيلة أعوام وأعوام؟! ألا يذكرون حرب السنتين في لبنان، حيث صارت العاصمة بيروت: شرقية وغربية، وكذلك لبنان كله، بسبب الحرب لنزع السلاح؟!
لبنان، يا سادة نزع السلاح، لا ينسى ما مرَّ عليه، ولا اللبنانيون. خوض في المجازر الجماعية، وذاق أهله السحل وقطع الرؤوس، وكذلك القتل على الهوية، والقتل على المناطقية، والقتل على الزعامتية. وكل ذلك كان يجري لحساب واحد عنوانه: نزع السلاح.
لبنان اليوم كله، دولة وشعبا، قولا واحدا: نزع السلاح، وحصرية السلاح. لبنان كله، يريد منع تراخيص السلاح: من المسدس والبندقية، حتى الصاروخ والدبابة والمسيّرة والطبنجة..
معركة لبنان مع السلاح، مثل معركته مع الكابتغون، ورائه معامل وورائه تجار، وورائه مهرّبون كبار، نيطت بهم المسؤوليات، وظلوا حتى اليوم يتوارثون المسؤولية، إحتلوا الصف الأول والثاني والثالث، وتربعوا في السدة، وما كانوا يشبعون. وكيف لمن كان «يأكل بكل بطنه، أيقبل أن يأكل اليوم بنصف بطنه، أو بثلثه، أو بثلثيه»!
آه! ما أعدل الجاحظ، في الشاهد الذي ذكرت!
