وسط كل الحركة الديبلوماسية الاميركية الناشطة في اتجاه سحب سلاح حزب الله وقيام الموفد الاميركي توم براك بزيارات ذهابا وايابا الى بيروت و»تل ابيب، الى جانب كلامه الاستفزازي للصحافة والذي اثار ردة فعل سلبية داخلية لبنانية، يبقى الاهم من كل ذلك هو كلام بنيامين نتنياهو ان «الجيش الاسرائيلي» سيقلص «وجوده» مقابل سحب سلاح حزب الله. وهو ما يؤكد ان نتنياهو يناور في هذا السياق وان كلامه قابل لعدة تأويلات، الامر الذي يشير الى ان جيش الدولة العبرية لن ينسحب من الاراضي اللبنانية المحتلة.
واعلان نتنياهو، الذي هو وبكل بساطة لعب على الكلام، لا يتمشى مع الطرح الاميركي الذي عرض على الدولة اللبنانية، وتحديداً على الرؤساء الثلاثة، لذلك لا يجب ان تغض الدولة النظر عن نفاق رئيس حكومة العدو الاسرائيلي، لان من شأن ذلك ان يطول الاحتلال الاسرائيلي للمواقع الخمسة جنوب لبنان. والحال اننا لسنا بحاجة الى سرد وقائع عن كذب نتنياهو ودولته ودوسها على القانون الدولي وكل القرارات الدولية الصادرة من مجلس الامن، اذ ان آخر مكرها ظهر بعدم احترام اتفاق وقف اطلاق النار الذي ابرم في 27 تشرين الثاني عام 2024 وبرعاية اميركية.
اضف الى ذلك، انشأ جيش الاحتلال موقعا عسكريًا له جديداً قرب كفركلا، ليقطع الشك باليقين بانه عازم على الانسحاب من المواقع اللبنانية، بل يبين ذلك فجور وغطرسة الاسرائيليين في توسع تحركاتهم ضمن الاراضي اللبنانية.
اذا كيف تصدق الدولة اللبنانية ان «اسرائيل» ستنسحب اذا سحب سلاح حزب الله؟ وكيف تصدق الدولة ان تجريد الحزب من سلاحه لن يكون اخر المطالب والشروط التي تسعى اليها «اسرائيل»؟
ذلك ان «اسرائيل» تعيش «فلتان امني» بعد عملية طوفان الاقصى حيث استحوذت على الضوء الاخضر الاميركي بشكل كامل وغير مسبوق في مواجهة اعدائها، ولذلك لماذا ستتراجع «تل ابيب» عن اي خطوة قامت بها، سواء في لبنان او غزة او سوريا ما دامت تنفذ ما تريده دون حسيب او رقيب.
انطلاقا من ذلك ومن باب الحرص، وليس من باب المزايدة على دولتنا، اليس من الاجدر ان تتكلم بصراحة مع الجانب الاميركي وتطالب بكل صراحة بقيام «اسرائيل» اولا بانسحاب وان كان جزئيا من الاراضي اللبنانية، لتنتقل لاحقا دولتنا الى التفاوض مع حزب الله ومعالجة السلاح ضمن الاستراتيجية الدفاعية؟
نعم، تفرض المسؤولية الوطنية ان يتمسك الرؤساء الثلاثة بالمطلب الاساسي لانسحاب «اسرائيل» الكامل من الاراضي اللبنانية، وان كان انسحابا جزئيا، قبل اي مطالبة لحزب الله بتسليم سلاحه. من المهم المحافظة على سيادة الدولة اللبنانية وهيبتها وان يكون هذا الامر الهدف الاسمى، لتفادي الانزلاق نحو وضع يُهدر فيه الحق الوطني ويضعف قدرة الدولة على فرض ارادتها.
وتجربة السلطة الفلسطينية تقدم درسًا واضحًا في هذا الصدد. فالسلطة الفلسطينية، نتيجة التنازلات المستمرة والانبطاحات امام الضغوط الاسرائيلية والاميركية، فقدت تدريجياً قدرتها على حماية مصالح شعبها، واصبحت غير قادرة على فرض اي ارادة حقيقية على الأرض. حتى المجتمع الدولي لم يعد ينظر اليها كممثل قوي للشعب الفسطيني، واصبح احترامها وهيبتها في أدنى مستوياتهما، الامر الذي اضعف قدرتها على التفاوض مع «اسرائيل». هكذا اضحت السلطة الفلسطينية سلطة مغلوبا على امرها عاجزة عن تحقيق اي مكسب سياسي او ديبلوماسي تجاه الدولة العبرية.
على هذا الاساس، لا يمكن ان يكرر لبنان هذه التجربة وهي لا تزال ماثلة امامه، ولا يزال الرئيس محمود عباس يتلقى طعنات سياسية وعسكرية احيانا من الاسرائيليين رغم اتفاق اوسلو ورغم رغبة فتح في عدم التمسك بخيار الحرب كخيار وحيد للحصول على اهدافها بوجه من اغتصب ارض فلسطين.
فلا بد من تعزيز مكانة السلطات اللبنانية وهيبتها امام الداخل والخارج، وعدم السماح بأن تتحول الى هيئة ضعيفة لا يهابها احد، سواء الاسرائيليون او الاميركيون او حتى بعض القوى الداخلية.
نعم التمسك بالسيادة الوطنية أولًا، والعمل بحكمة في التفاوض لاحقًا، هما السبيل لضمان مستقبل مستقر للبنان، يحمي مصالحه القومية ويؤسس لدولة قوية تحترم نفسها لكي تحترمها الدول الاخرى.