في 10 حزيران 1982 حصلت معركة السلطان يعقوب، أو بيادر العدس، في البقاع الغربي بين الجيش الإسرائيلي المتوغّل في اتجاه طريق المصنع – دمشق، وبين وحدات متفرقة من جيش النظام السوري والفصائل الفلسطينية واللبنانية. بعد 43 عاماً لا تزال ألغاز كثيرة تلفّها ولكن يبقى أهمها اللغز المتعلق بجثّة الجندي الإسرائيلي الثالث يهودا كاتس الذي بقي مكان دفنه مجهولاً ولا تزال إسرائيل تبحث عنه.
الجنود الثلاثة الذين ضاعت آثارهم هم يهودا كاتس وتسيفي فيلدمان وزكريا باومل. في بداية نيسان 2019، قبل سقوط نظام بشار السد وفراره إلى موسكو، أعلنت إسرائيل عن استعادة جثة باومل. وفي 11 أيار 2025، بعد قيام السلطة الجديدة برئاسة الرئيس أحمد الشرع، استعادت جثة تسيفي فيلدمان. والبحث مستمر عن جثة الثالث.
لا شك في أن إسرائيل استفادت من انلاع الحرب في سوريا وتبادل التنظيمات ونظام الأسد السيطرة على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين الذي قيل إن الجثث كانت مدفونة فيه. ولكن لم تكن هناك معلومات مؤكدة قبل ذلك حول هذا المكان لأن إسرائيل كانت تعتقد أنهم دفنوا في إحدى قرى البقاع الغربي في لبنان. ولا شك أيضا في أن إسرائيل استفادت من تدخل الجيش الروسي في الحرب السورية منذ آخر أيلول 2015 عندما بدأ الميزان العسكري يتحوّل لمصلحة هذا النظام والقوى الداعمة له كـ “حزب الله” والتنظيمات الموالية لإيران. ذلك أن الدور الروسي ظاهر في المرحلتين: مرحلة ما قبل سقوط النظام ومرحلة ما بعده. والتدخل الروسي لم يقتصر على استعادة جثتي باومل وفيلدمان بل تخطّاهما إلى استعادة دبابة أم 48 معدّلة إسرائيلياً فُقِدت في معركة السلطان يعقوب وغنِمتها سوريا ثم سلّمتها إلى موسكو لكي تدرس التقنيات المعتمدة فيها والأجهزة التي أضافتها إسرائيل عليها. كان ذلك قبل سقوط الاتحاد السوفياتي. ولكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يتردّد، في آخر أيار 2016، في إعادة هذه المدرعة إلى إسرائيل التي أرسلت إليه واحدة أخرى مشابهة لها لكي تبقى معروضة في متحف “كوبينكا” العسكري في ضواحي موسكو. فالمدرعة المستعادة لها رمزيتها العسكرية والمعنوية لإسرائيل لأنّ الجنود الثلاثة كانوا يشكّلون طاقمها، بحسب الرويات العسكرية. وقد استعيدت قبل استعادة جثتي باومل وفيلدمان.
ساحة المعركة: فوضى عسكرية
حصلت معركة السلطان يعقوب الساعة الثانية فجر 10 حزيران 1982. الصور القليلة المنشورة عن تلك المعركة تقتصر على تلك التي التقطها زياد الحمصي الذي كان القائد العسكري لوحدات “جيش لبنان العربي”، بعد تعذر الإتصال مع القائد الفعلي أحمد الخطيب، وكان مشاركاً في هذه المواجهة مع مجموعة عسكرية تابعة له.
يروي الحمصي في كتابه “لغز الجنود الإسرائيليين الثلاثة” الصادر عام 2019 أنّ تنسيقاً عسكرياً ميدانياً حصل بين قادة عسكريين فلسطينيين وسوريين ولبنانيين مشاركين في المواجهة عند الساعة الثانية عشرة ليلة 10 حزيران خلف مخفر بيادر العدس بعد رصد تحركات إسرائيلية وبعد توفر معلومات من قائد اللواء السوري المدرع، العميد علي حبيب، بأن أوامر صدرت إليه بالقتال حتى الموت للحؤول دون تمكن الجيش الإسرائيلي من التوغل وقطع طريق بيروت – دمشق في المصنع والوصول إلى شتورة وزحلة ورياق. الساعة الثانية فجراً بدأ هجوم نحو 150 مدرعة إسرائيلية من دون مواكبة قوات المشاة فتعرضت لإطلاق الصواريخ والقذائف المضادة للدروع التي أصابت عدداً منها ودمّرتها وأوقعت فيها خسائر بشرية، الأمر الذي أدّى إلى قرار فوري إسرائيلي بالتراجع فانسحبت المدرعات وتوقف إطلاق النار. مع ساعات الصباح الأولى ظهرت الخسائر الإسرائيلية، تقدم زياد الحمصي مع عدد من العناصر والتقطوا صوراً لعدد من المدرعات الإسرائيلية السليمة والمدمّرة ومن بينها صورة المدرعة التي سُلِّمت إلى موسكو واستعادتها إسرائيل. وقد ظهرت في عدد من الصور جثة الجندي الإسرائيلي زكريا باومل مرتديا ثيابا مدنية وملقىً على الأرض بعيداً عن الدبابة، بينما لم تظهر صور الجنود الآخرين الذين قُتلوا أو الذين أُسِروا أحياءً.
لا فصل بين الجثث
يروي الحمصي في كتابه أيضا أنه بعد الساعة العاشرة “شاهدت سيارات الإسعاف التابعة للفدائيين الفلسطينيين تقوم بإخلاء الجرحى وشاهدت بيك أب أبيض صغيراً يحمل جثثاً ويتوجّه نحو بلدة عيتا كان هناك اختلاط بين جثث العدو وشهداء الجيش العربي السوري والشهداء الفلسطينيين واللبنانيين. لم يكن هناك متسع من الوقت للتقصّي والفصل، ذلك أنّنا تركنا هذا الأمر لطواقم الإسعاف ومساعديهم من المقاتلين على الأقل اثناء نقل الجثث…”. ويصف الحمصي الفوضى التي حصلت في المكان حيث “انقضّ مئات المقاتلين على المدرعات وعاثوا في محتواها بحثاً عن أسلحة وذخائر ومسدسات وخرائط عسكرية…”. ويضيف أنّه بعد نصف ساعة من التقاطه الصور للمدرعة السليمة: “وصلت تعليمات لقائد اللواء السوري تطلب سحب الدبابات الأسيرة بما فيها الدبابات الثلاث المدمرة وذلك فور تلقي البرقية وإلى دمشق مباشرة”.
يظهر هذا الوصف الميداني لمجريات المعركة حالة الفوضى التي سادت. لم تكن هناك قيادة واحدة ولا إمرة محددة. التنسيق الميداني حصل على الأرض مباشرة. لم تكن القوى التي تشارك في التصدي منظمة ومعروفة. كل فصيل يتبع قيادته ولا تواصل مع القيادات المركزية. ما ساعد في عمليات الإخلاء الفوضوية أن إسرائيل لم تعاود الهجوم على ذلك المحور. وقد تحدثت المعلومات لاحقاً عن مقتل 20 جندياً وجرح العشرات وفقدان 6 جنود واستيلاء جيش النظام السوري على 8 دبابات.
غابوا عن عمليات التبادل
بقي مصير تسيفي فيلدمان ويهودا كاتس وزكريا باومل مجهولاً. حتى في عمليات تبادل الأسرى والجثث لم تظهر أي آثار لهم. ربّما كانت الجهة التي احتفظت بهم تريد أن تنفي وجودهم عندها بانتظار وقت آخر يمكن أن تقوم فيه بعملية تبادل مستقلة بحيث لا تتخلى عن كل الأوراق التي في يدها مرة واحدة. ففي 23 تشرين الثاني 1983 أطلقت إسرائيل نحو 4700 من المعتقلين في معتقل أنصار وعدداً من الجنود السوريين و65 أسيراً من سجونها مقابل إطلاق ستة جنود من قواتها الخاصة كانت أسرتهم حركة فتح في بحمدون في 4 ايلول 1982. وفي 26 حزيران 1984 استعادت إسرائيل ثلاثة جنود وخمس جثث مقابل الإفراج عن 291 جندياً سورياً و85 معتقلاً لبنانياً و13 سورياً من الجولان ورفات 74 جندياً سورياً. وفي 20 أيار 1985 أطلقت إسرائيل 1155 أسيراً من سجونها ومن معتقل أنصار مقابل ثلاثة جنود كانت أسرتهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة في معركة السلطان يعقوب وجنديين أُسِرا في بحمدون.
دخول الموساد على الخط
على رغم أن زياد الحمصي نشر صوره مع مجموعته العسكرية في معركة السلطان يعقوب إلى جانب المدرعات الإسرائيلية وجثة زكريا باومل منذ بداية التسعينات، إلا أن إسرائيل لم تحاول التواصل معه إلا عام 2005 من خلال عملية تضليل اعتمدتها للإيقاع به وتجنيده، وكان صار رئيس بلدية سعدنايل، عبر اتصال من بلدية بكين في الصين، ثم عبر تأمين عمل تجاري في شركة صينية وتأسيس شركة في لبنان تستورد منتوجات هذه الشركة، ودفع مرتب شهري له، قبل أن يظهر أن الموساد وراء هذه العملية وقبل أن يطلب منه التعاون في البحث عن مكان وجود جثث الجنود الثلاثة. بعد ذلك التقى الحمصي النائب، وقتها، اسماعيل سكرية وطلب منه أن يؤمن التواصل بينه وبين النائب محمد رعد لإطلاع “حزب الله” على ما تريده إسرائيل. ولكن لم يتأمن التواصل. فتخلى الحمصي عن خيار “الحزب” خصوصاً بعدما كانت حصلت عملية 7 أيار 2008 وتخلّلتها اشتباكات في منطقة سعدنايل وتعلبايا مع “الحزب”، فأبلغ الحمصي ضابطاً في شعبة المعلومات بالأمر فطلب منه كتابة تقرير لإرساله إلى رئيس الشعبة اللواء وسام الحسن. كتب الحمصي التقرير وسلّمه للضابط. عرض الحسن الأمر على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي لتأمين غطاء قضائي أمني للحمصي لكي يستمر بالعمل مع الموساد بعلم الشعبة. في آخر لقاء مع الإسرائيليين في أيار 2009 في تايلاند تسلّم الحمصي خارطة عسكرية حُدِّدت عليها ست نقاط قال الإسرائيليون إنّ جثث الجنود مدفونة فيها ويظهر أنّها في عيتا الفخار. سأل الحمصي عن طريقة العمل في حال تم العثور على الجثث فقيل له إن الأمر يتقرر بعد ذلك. التقى الحمصي الضابط في المعلومات وسلّمه الخريطة. بعد أيام اعتقلت مديرية المخابرات الحمصي بتهمة التعامل مع الموساد.
من عيتا الفخار إلى اليرموك؟
هل كانت المواقع المحددة على الخارطة صحيحة؟ أم لاختبار صدقية الحمصي؟ لماذا اعتقل الحمصي بعد حصوله على الخارطة وكيف استطاعت مديرية المخابرات اكتشاف علاقته مع الموساد ولم يؤخذ بداية بواقعة تواصله مع شعبة المعلومات التي كانت اكتشفت أكثر من شبكة تتعامل مع الموساد؟ وهل كان لاعتقاله علاقة بتأييده تيار المستقبل بعد غزوة 7 أيار 2008 وقبل انتخابات 2009 النيابية؟
إذا كانت إسرائيل حتى عام 2009 تمتلك معلومات عن مكان دفن الجثث الثلاث في لبنان فكيف انتقل البحث عن الجثث إلى مخيم اليرموك قرب دمشق بعد اندلاع الحرب في سوريا؟ وإذا كان صحيحاً أن جثتي باومل وفيلدمان كانتا في مقبرة مخيم اليرموك فلماذا عثر على جثة الأول عام 2019 وعلى جثة الثاني عام 2025؟ ولماذا لم يعثر بعد على جثة يهودا كاتس؟ وهل ضاعت في الفوضى منذ 10 حزيران 1982 لتنضم إلى جثتي الطيار رون أراد وإيلي كوهين؟
