Site icon IMLebanon

اللبنانيّون يكسرون سلسلة الدولة ويشبكون “سلسلة” الثورة !

 

لا يبدو ان اللبنانيين يريدون ان يتوقفوا عن المطالبة باستعادة دولتهم المحتلة بكل انواع الاحتلال الذي يفسد الدستور والادارة العامة والسياسة، ولا تشير وقائع السلسلة البشرية التي امتدت أمس (الأحد) على طول لبنان، أن الشعب يمكن ان ينكسر امام خطاب طائفي او مذهبي أو تهويل أو بطش.

 

ثمة حدث عظيم يعيشه اللبنانيون هذه الأيام، يدركون من خلاله كما عبّر الكثير منهم، أنهم التقطوا وحدتهم الحقيقية كشعب في وجه سلطة، طالما كان سلاحها صناعة الانقسام أو ترسيخه في المجتمع لاطلاق اوسع عملية نهب منظم لارادتهم الوطنية، وحريتهم وقوت يومهم، ولكل ما يندرج في سياق الثروة الوطنية، التي جرى ويجري تقاسمها بين أركان السلطة، على حساب الشعب والدولة والوطن.

 

ليس ما يجري على ألسنة المنتفضين في طول البلد وعرضه، كلام الغضب والوجع فحسب، بل لغة جديدة مسكونة بروح لبنانية لم تفهمها السلطة بعد، ليست العناوين المطلبية، سوى تفصيل لا يمكن ان يختصر هذه الثورة اللبنانية التي انتفضت على كل خطاب السلطة، هي ثورة على اللغة اولاً، وثورة على المعادلة الطائفية التي سجنت اللبنانيين كلاً في سجن الخوف من المسجون الآخر ثانياً، هي ثورة الكرامة في وجه الاهانة والاستهانة بالشعب الذي ارتكب باسمه كل هذا الفساد والافساد في الدولة، مجتمعاً ومؤسسات ثالثاً.

 

الانتفاضة اللبنانية في عمقها هي ثورة على الذات قبل ان تكون ضد السلطة وأدواتها، على هذا الانسياق في معادلة الانقسام العبثي، وعلى هذا الغرق في دوامة الجدل العقيم، الذي تفننت السلطة في صناعته، كاد يؤمن اللبنانيون انهم شعوب او قبائل وطوائف، وان ما يعانون منه هو قدر من أقدار هذه المساحة الجغرافية، المسماة لبنان، لذا ثورتهم اليوم قد اطاحت بكل هذه الأوهام، التقطوا حقيقة انهم شعب لبناني، مسكون بحلم لبنان الوطن والدولة، انتفضوا محافظين على تنوعهم الخلاق، وعلى حقهم في الاختلاف، بقدر قناعتهم بانتمائهم العميق للبنان الوطن والدولة، في الأيام العشرة الأولى من هذه الانتفاضة الوطنية، أعلن اللبنانيون امام انفسهم اولاً وامام كل العالم، وفي وجه منطق الميليشيا الذي يحكمهم، ان الحرب انتهت.

 

نعم هو الاعلان المجتمعي الذي انهى الحرب اللبنانية وأعلن في السلسلة البشرية التي شاهدها العالم، توقيعه على نهاية الحرب التي بدأت ذات يوم بين اللبنانيين ولم تنته في توقيع اتفاق الطائف أو سواه.

 

على أبواب مئوية لبنان، تعيد الانتفاضة اللبنانية للسلام معناه الحقيقي، وبعده الخلاق، لا حرب بعد اليوم، لا للعنف، ولا للخوف، ولا للاستقواء بالخارج والداخل، انها الوردة في وجه البندقية، والصدر العاري في وجه القوة الغاشمة، والحب في وجه الكراهية، والأغنية في وجه التهديد والوعيد، والعناق في وجه التفرقة والانقسام.

 

هنا انتهت الحرب، ويبقى السلام الذي سيصنعه اللبنانيون هذه المرة بأيديهم، بكل اوجاعهم، مستفيدين من كل الطعنات التي طالت جسد الوطن، ومن كل الخيبات التي بنت جدران اليأس في دواخلهم. تشققت الجدران وتهاوت، بإرادة جيل لبناني جديد سيفرض ايقاع السلام والبناء.

 

سر الانتفاضة اللبنانية، يكمن في هذا الجيل الذي انقلب على شروط اللعبة القاتلة في ساحة الدولة وسلطاتها، لقد افتتح ساحات جديدة على امتداد الوطن والدولة، ساحات يصعب على السلطة ادراكها واستيعابها، وها هو يفرض معادلة جديدة بشروطه، المواطنية أساسها والدولة إطارها، والوطن طاقتها، والسلام اللبناني مظلتها، والإنسان معيارها، جيل يتجاوز تلك الشعارات التي سجنت اللبنانيين، وحولتهم الى كائنات متربصة ببعضها، انه انقلاب عميق في السياسة اللبنانية التي قدست الطائفية وألّهت الزعيم وجعلت كرامة المواطن والإنسان تفصيلاً، وعنصراً مغيباً في مسارها السياسي والاجتماعي، انقلاب على كل ما اوصل البلاد الى هذا الحضيض الأخلاقي والسياسي، ثمة جيل قرر انه لم يعد في وارد القبول بمعادلة الموت التي استحوذت على الدولة والوطن.

 

هذه الثورة شقت مسارات حفرت في الدولة، مسارات جديدة وغير مسبوقة في جديتها وإصرارها، مسارات لم تكتمل عناصرها، لكنها تفاجئ الجميع بما تفتتحه كل نهار من تعبيرات لبنانية صافية، وبما تفرضه من لغة وخطاب لم تدرك السلطة كنههما، لذا لا يزال أركانها منهمكين في ترميم معادلة فقدت صلاحيتها وتجاوزها اللبنانيون.