Site icon IMLebanon

في مديح الحرب الأهليّة

 

 

 

أي حرب أهليّة بالضرورة مأسويّة، ككلّ ما يرسل إنسانًا لموت مبكر. يبقى أنّ خوض هذا النوع من المآسي يكون أحيانًا ضرورة أخلاقيّة، فضلًا عن كونه حاجة سياسيّة.

 

فكّر على سبيل المثال بنضال المقاومة الفرنسيّة ضدّ النازيّين بالحرب العالميّة الثانية. المقاومون لم يحاربوا الألمان فقط، بل أيضًا جزءًا غير قليل من الفرنسيّين المتعاونين مع النازيّين. وبهذا المعنى، المقاومة الفرنسيّة كانت بجانب لا لبس فيه من جوانبها حربًا أهليّة فرنسيّة. هل كان ينبغي القبول بالغيستابو لتفادي قتال أنصار فيشي؟

 

فكّر أيضًا بحرب استقلال المستعمرات الأميركيّة ضدّ البريطانيّين. هناك أيضًا، انقسم سكّانها إلى جزء أيّد الاستقلال، وآخر بقي مواليًا للعرش البريطاني حتّى اللحظة الأخيرة. هل كان ينبغي على الأميركيّين الاستقلاليّين أن يتخلّوا عن هدفهم النبيل لأنّ مصالح جزء من شعبهم وهويّته وضعته بالمقلب الآخر؟ إن كان الجواب أن لا، فهذا يعني أنّ الحرب الأهليّة تكون فعلًا أحيانًا شرًّا لا بدّ منه. والحال أنّ التاريخ الأميركي يقدّم لنا مثلًا آخر أكثر وضوحًا بعد، عنيت الحرب الأهليّة الأميركية بالقرن التاسع عشر. انتصار الشمال على الجنوب بالحرب قضى على العبوديّة التي ما كان الجنوب ليتخلّى عنها بغير القوّة. هل كان ينبغي القبول بالاستمرار المشين للعبوديّة مقابل تجنّب الحرب الأهليّة؟ إن كان الجواب أن لا، فهذا يعني فعلًا أنّها تكون أحيانًا ضرورة أخلاقيّة.

 

نصل إلى لبنان. بين 1861 و 1975 عرفت بلادنا فترة ذهبيّة كان من علاماتها فتح الكليّة الإنجيليّة (الجامعة الأميركيّة لاحقًا) أبوابها ببيروت (1866)؛ وإطلاق الجامعة اليسوعيّة لاحقًا (1875)؛ وتحوّل جلّ فلّاحي جبل لبنان إلى ملّاكين صغار متخفّفين من رجس الإقطاع، ومقبلين بنهم على العلم، والعمل، والترقّي الاجتماعي؛ ووضع الدستور الوحيد بالعالم العربي قاطبة الذي لا ينصّ على دين للدولة (1926)؛ ثمّ بناء الجيش الوحيد بالجوار العربي الذي لا يحترف الانقلابات؛ ثمّ بناء حياة سياسيّة مبنيّة على جوّ حريّات استثنائي بالمنطقة، وتعدديّة حزبيّة حقيقيّة. لم تخل هذه الحقبة من المشاكل، ولعلّ التحدّي الأكبر فيها كان ما وصفه الدكتور فريد الخازن بكتابه عن الحرب اللبنانيّة بـ “النموّ غير المتوازن للطوائف”. ولكنّ الإيجابي بين 1861 و 1975 فاق السلبي بكثير، خصوصًا، بالمقارنة مع سوريا الانقلابات، وعراق العنف السياسي الخرافي، ومصر الحكم العسكري، وليبيا “ثورة الفاتح”، الخ.

 

النجاح اللبناني اهتزّ عام 1975، مطلع الحرب الأهليّة، ثمّ دخل مرحلة “السباق إلى القعر” طوال أربعة عقود هي عمر حكم الشيعة للبنان. هؤلاء حكموا بدءًا بانتفاضة 6 شباط عام 1984 وانهيار الجيش اللبناني إثرها – بالمناسبة، الانتفاضة الشيعيّة، وانهيار الجيش، كانا سبب رحيل الأميركيّين من بلادنا، وتركنا لقمة سائغة لحافظ الأسد، لا الهجوم على المارينز بتشرين الأول 1983 – وانتكسوا بمقتل حسن نصراللّه بأيلول 2024. طوال أربعين عامًا جحيمًا هي عمر الحكم الشيعي، صار اسم بلادنا مرادفًا لخطف الرهائن والإرهاب الدولي؛ وللأصوليّة الإسلاميّة؛ ولدورات العنف المتناسلة؛ وللاغتيالات السياسيّة كمجرّد طريقة “عادية” للعمل السياسي؛ ولتجارة الكبتاغون، وتبييض الأموال؛ والفساد الخرافي؛ وللانهيار الاقتصادي وهجرة الكفاءات؛ ولبروز طبقة حاكمة، عمودها الفقري شيعي، لا يتمنّاها المرء لأعدائه.

 

ما يحاول جلّ اللبنانيّين فعله اليوم هو إطلاق مسار الخروج من القعر، والربط ما أمكن مع المسار المذكور آنفًا بين 1861 و 1975، مع الانتباه لنواقصه وتصحيحها. بالمقابل، ما يفعله “الثنائي” الشيعي، ومعه جلّ المكوّن الشيعي، هو القتال لإبقاء الستاتيكو الحالي الخانق، المدمّر للبنان، والمناسب لهم. هذا، باختصار، جوهر الصراع الحالي. ومع التكرار أنّ الحرب الأهليّة مأساة، فالمأساة الكبرى تجنبّها إن كان ثمن ذلك القبول باستمرار الحكم الشيعي للبنان. استطرادًا: لا ينبغي، مهما حدث وصار، أن يتراجع جوزاف عون، ونوّاف سلام، والحكومة اللبنانيّة. ولو وقعت الحرب الأهليّة، نتيجتها واحدة من اثنتين لا ثالثة لهما: 1) أن يخسر “حزب اللّه”، وتبسط الدولة اللبنانيّة سلطتها وحدها على سائر الأراضي اللبنانيّة. 2) أن يحتفظ “حزب اللّه” بجزء من التراب الوطني يحكم الشيعة فيه كقوّة أمر واقع، بينما ينظّم اللبنانيّون أمورهم بالمناطق الأخرى. السيناريو الأوّل مقبول. أمّا السيناريو الثاني، فيوم المنى، وخطوة جبّارة على طريق الحلم الكبير.