أين طرابلس التي عاد الى ترابها الدكتور عبد المجيد الطيب الرافعي من طرابلس التي فتح عينيه عليها قبل تسعة عقود؟ أين لبنان الذي يتحكّم أمراء الطوائف بسياسته وارادته وحتى جامعته من لبنان الذي كانت طليعة من أبنائه تحلم وتناضل لنقله من العيش المشترك الى الوحدة الوطنية الفعلية واقامة دولة المواطنة فيه؟ أين قضية فلسطين اليوم من أيام كانت قضية العرب الأولى والمركزية ومحور هموم التحرير لدى جيل عبد المجيد الرافعي والجيل الذي علّمه والأجيال التي تعلمت منهما؟ أين صراعات المشاريع المذهبية والإتنية الطاغية على المنطقة تحت الرعاية الدولية من النضال تحت راية المشروع القومي العربي؟ وأين الواقع الحالي في العراق وسوريا بشكل خاص من الارتكاز على صخرة العروبة والعمل على مسار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟
الخسارة مزدوجة برحيل عبد المجيد الرافعي بعد رحيل مرحلة النهوض الوطني والمدّ القومي العربي. فالرجل في مسار حياته كلها واحد من نماذج فريدة ونادرة. واذا كان أندريه مالرو يقول ان الانسان هو ما يخفيه، فان الظاهر من طبيب الفقراء هو حقيقته.
وكل من عرفه أو حتى قصده لخدمة يعرف ذلك بالملموس. إذ لا مسافة بين شخصه وشخصيته. ولا هوّة تفصل سلوكه الشخصي ونمط حياته عن القيم النبيلة التي يؤمن ويبشر بها فهو خلافاً لكثيرين ممن يعملون في الشأن العام ويقدمون الى الناس أجمل خطاب، يشبه تماماً الأفكار التي اعتنقها. وهو من المناضلين الذين لم يدفعهم الإضطهاد الى الإنحراف عن الخط، ولا قادتهم السلطة الى القسوة وتبريرها أو الى الوقوع تحت إغراء المال، كما فعل رفاق له.
ذلك ان الدنيا تغيّرت كثيراً من حول عبد المجيد الرافعي من دون ان يتغيّر. رأى مرحلة التحرّر الوطني تصل الى نهاية بائسة. رأى انحسار المدّ القومي العربي. رأى الإسلام السياسي الذي أراد وراثة العروبة تطغى عليه الأصولية المتطرفة والسلفية الجهادية المتشددة التكفيرية والإرهابية وصولاً الى القاعدة ثم داعش. ورأى عودة الدور العسكري والقواعد العسكرية للإمبريالية الجديدة الأميركية والأوروبية والروسية واندفاع القوى الإقليمية الثلاث الإسرائيلية والايرانية والتركية على المسرح العربي. لكنه بقي على ايمانه بأن العروبة هي الحقيقة الثابتة، والبقية من المتغيرات. ولم يتوقف عن النضال لاستعادة مرحلة المدّ القومي العربي. كأنه النموذج الحيّ لقول توماس بين: الإعتدال في المزاج هو دائماً فضيلة، لكن الإعتدال في المبادئ هو دائماً رذيلة.
وأي ميّت هو وأي أحياء نحن؟.