حتى الآن، لم تبد طهران أي استجابة للعروض الإسرائيلية بالمباشرة في حربٍ مع تل أبيب في سورية. الغارات صارت شبه يومية، والأهداف تنوعت بين مطارات ومخازن أسلحة ومواكب، والأميركيون بدورهم اشتركوا ببعض الغارات.
والحال أن عدم استجابة طهران لعروض الحرب ينطوي على قدر من السياسة، ذاك أن قراءة للمشهد ستفضي بصاحب القرار في طهران، إذا ما كان واقعياً، إلى أن الانكفاء أجدى، وأن موازين القوى في هذه الحرب ليست إلى جانبه بأي حالٍ من الأحوال، والاكتفاء بوعود الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله بردود غير متوقعة هو الصيغة الأكثر ملاءمة للواقع الإيراني اليوم.
لن يكون أحد إلى جانب طهران إذا بدأت الحرب. موسكو نفسها ستكون على الحياد، والجيش السوري عبء وليس سنداً. الميليشيات الشيعية، باستثناء «حزب الله»، لا تصلح لحربٍ من هذا النوع وستكون مجرد هدف للغارات، فيما ستكون واشنطن إلى جانب تل أبيب، وجهود التهدئة الأوروبية ستبدأ في الأسبوع الثالث، أي بعد أن تكون الحرب قد أرست معادلات ميدانية. خصوم طهران من كل حدب وصوب سينتظرون جلاء النتائج.
لكن، في ظل معادلة اليوم، على المرء أن يراقب المشهد وأن يحار مما سيفضي إليه! فما يجري ميدانياً هو حرب غير معلنة. الغارات اليومية التي تصلنا أخبارها ليست سوى حرب لا يرغب أطرافها في توريط أنفسهم بإعلانها. وما لا يصلنا أخبار عنه مما يجري في الميدان ربما كان أكبر. من يدري، طالما أن إسرائيل لا تعلن وطهران قالت إن لا وجود لها في سورية.
شرط الحرب هو أن يُعلن عنها، وهذا ما يبدو أن طهران وتل أبيب تتفاديانه حتى الآن. الحرب بصفتها حدثاً سياسياً، لا عسكرياً، تقتضي أن يُكشف عن وقائعها لكي تتحول سياسة ومفاوضة ومعطياتٍ ميدانية. أن تنفذ إسرائيل غارة وأن تدمر قاعدة للحرس الثوري الإيراني، فلا قيمة غير ميدانية لما جرى طالما أن طهران، وبالتواطؤ مع تل أبيب، لا ترغب في أن تبني على الشيء مقتضاه. لن يطول الوقت حتى تنقضي هذه المعادلة، فهذا الاختناق لن يولد نتائج لا شك أن تل أبيب تسعى إليها. الحرب غير المعلنة لا تنجم عنها نتائج. الخسائر السرية تحمي من يتكبدها من تبعات الهزيمة الفعلية. وهذه لعبة تجيدها طهران، وتل أبيب من جهتها لا تمانع حتى الآن طالما أن الهدف ما زال منع طهران من تثبيت قواعد لها في الجنوب السوري.
وعند هذا المستوى من الاختناق، ستسعى طهران إلى مزيد من البراغماتية الميدانية، وهي تجيد ذلك كثيراً. الأرجح أن تنفذ «انكفاءات» ميدانية وأن تفسح في المجال لدور روسي أكبر على الأرض في سورية، وثمة معلومات غير موثقة عن انسحابات بدأت تنفذها الميليشيات الشيعية من الجنوب السوري. وهذه المعلومات، إن صحت، لا معنى لها سوى أن طهران تقول إنها لا تريد الحرب.
لكن، من المرجح أيضاً أن ذلك لا يكفي في عرف تل أبيب. فالتورط الإيراني في سورية لا يمكن حجبه بسحب بعض الفصائل العراقية. وانسحابات فعلية للميليشيات المرعية من إيران تعني أن النظام المحمي من هذه الميليشيات فقد ظهيره الرئيسي وسيلتقط خصومه أنفاساً تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. موسكو من جهتها، لا يبدو أنها في موقع إدارة مفاوضات لتفادي الحرب. الأرجح أنها أضعف من أن تشكل ضمانة لأي اتفاق، ولهذا هي في موقع المنتظر. وأن تتعرض طهران لضربة في سورية، فهذا ما يرشح فلاديمير بوتين لأن يملأ الفراغ، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن موسكو لا ترغب في ردع أحدٍ.
حظوظ حرب إسرائيلية إيرانية في سورية ما زالت أرجح من حظوظ نجاح المساعي لتفاديها. علماً أن المساعي تقتصر حتى الآن على خطوات انكفائية تنفذها طهران، ولا يبدو أن تل أبيب تشعر بأنها مقنعة.