سلاح “حزب الله” ليس قضية محصورة في لبنان، وإن بدا سحبه مسؤولية لبنانية في إطار “حصرية السلاح بيد الدولة”. وحجة الممانعة في الحفاظ عليه ليست خارج لبنان، وإن كانت المواجهة ممتدة إلى واشنطن، والمهام مركزة على رد الخطر الإسرائيلي من الجنوب والخطر السلفي الجهادي من الشمال والشرق وحديث “التهديد الوجودي” للشيعة. والكل يعرف أن المسألة أكبر من السلاح الذي هو مجرد عامل في لعبة استراتيجية وجيوسياسية واسعة. عنوان اللعبة اليوم هو سحب المشروع الإقليمي الإيراني وسلاحه وضرب أذرعه في العراق ولبنان وغزة وصنعاء بعد إسقاط نظام الأسد على أيدي “هيئة تحرير الشام” وبقية الفصائل السلفية الجهادية. واللاعب الكبير هو الرئيس دونالد ترامب ومعه لاعبون أتراك وعرب، لكن الشريك الكامل له هو بنيامين نتنياهو.
قبل “طوفان الأقصى” ومعه، وبالطبع قبل حرب غزة ولبنان وحرب أميركا وإسرائيل على إيران، كان عنوان اللعبة مختلفًا تمامًا، بدءًا من الغزو الأميركي للعراق عام 2003. فالغزو فتح العراق أمام ترسيخ النفوذ الإيراني الذي تمدد إلى سوريا ولبنان وصنعاء وغزة بقيادة “حماس” ومعها “الجهاد الإسلامي”. والمرشد الأعلى علي خامنئي رأى أن “اليد العليا في المنطقة” صارت للجمهورية الإسلامية التي بدأت تحقيق مشروع الولاية في بلدان عربية وإسلامية ومشروع “الشرق الأوسط الإسلامي” بقيادة طهران ردًا على خطط الشرق الأوسط “الأميركي”.
أما حرب ترامب ونتنياهو على إيران بعد حرب غزة ولبنان وإسقاط النظام السوري، فإنها فتحت الباب لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. أما الاتجاه، فإنه نحو انحسار النفوذ الإيراني، بصرف النظر عن تصرف الجمهورية الإسلامية الإيرانية كأنها منتصرة وقادرة على تغيير الاتجاه من جديد. والوقائع ناطقة. من كان يفاخر بحكم “أربع عواصم عربية” هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء يعتبر اليوم أن بقاء النظام هو “نصر إلهي”. ومن أشرف على ولادة “حزب الله” في بعلبك على يد الحرس الثوري بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ثم “المقاومة الإسلامية” التي حررت الجنوب، يبدو اليوم في موقع المتفرج على عودة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الجنوب، والمحاذر من دفع “حزب الله” إلى المقاومة خوفًا من أن تكمل إسرائيل تدمير قوته، والعاجز عن وقف الموجة المتنامية هنا وفي الخارج حول سحب السلاح من كل وكلائه. وهو يربط كل شيء بصفقة مع أميركا.
ذلك أن الجمهورية الإسلامية عملت على بناء قوة في الداخل وفي المنطقة بالوكالة، لا فقط لمواجهة إسرائيل بل أيضاً لمواجهة أميركا التي هي العقبة الكبيرة أمام المشروع الإقليمي الإيراني. لكن “حكم المقاولين” في أميركا كشف نقاط الضعف الهائلة في “حكم المقاومين” في إيران. وإذا كانت طهران التي خسرت سوريا وما عادت الرابحة في لبنان تصر على التمسك بنفوذها في العراق والدفع نحو قانون يكمل شرعنة “الحشد الشعبي”، فإن الوضع العراقي ليس ثابتاً وحاجة بغداد إلى واشنطن على المستوى الأمني كبيرة. وليس من السهل على طهران معاودة العمل في المشروع النووي بعدما كشفت الضربات الأميركية، وسط الخلاف على مدى الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية، أن طبيعة المنشآت تحت الجبال تشير إلى أن البرنامج النووي ليس فقط سلميًا بل أيضًا عسكريًا.
ولا مجال للمماطلة الطويلة. فالمشروع الإقليمي الإيراني يتفكك. ودور السلاح انتهى، وإن كان الأفضل والأسلم تسليمه للدولة بدل تركه لضربات إسرائيل. وبالمقابل، لا بد من ترتيب أمني إقليمي في المنطقة بإشراف دولي، يبدأ بقيام دولة فلسطينية وينتهي بالتوازن بين الأدوار الإقليمية مرورًا باستعادة الدول الصغيرة مثل لبنان للسيادة وحصرية السلاح وقرار الحرب والسلم.
الباحث جيمس فيرون يتحدث عن “اللوتري المكلف” للحرب. ويطالب بتفادي الحرب عبر إجراءات “تجعل كل طرف رابحاً بلا حرب”. لكن هذا يبدو صعبًا في الشرق الأوسط.
