الانطباع الغالب والسائد أن إيران تنتظر عرضًا من الولايات المتحدة لمقايضة ورقة “حزب الله”، وأنها لن تتنازل عن هذه الورقة قبل أن تأخذ ثمنها “كاش” من واشنطن. غير أن هذا الانطباع يحتاج إلى مراجعة وتدقيق لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأن إيران لا تتعامل مع أذرعها كأوراق للبيع والشراء، بل تراها جزءًا أساسيًا من عِلّة وجودها ومشروعها التوسّعي وهدفها في التمدّد والسيطرة. وليس صحيحًا أن أولويتها تتمثّل في حماية كيانها فتستخدم أذرعها كأكياس رمل دفاعًا عنه، بل الأدقّ أن هذا الكيان هو نقطة الانطلاق لمشروعها لا أكثر ولا أقل، بحكم عدم إيمانها لا بوطن ولا بحدود. فالنظام الإيراني، من دون المشروع التوسّعي، يفقد هويته ودوره، وهو لا يتعامل مع نفسه أساسًا كدولة عادية.
السبب الثاني، لأن المشروع الإيراني كلٌّ متكامل، وخسارة أي ذراع من أذرعه تُعدّ خسارة للمشروع برمّته. وهو لا يميّز بين ساحته الداخلية وساحاته الخارجية، ولا يتخلى عنها ولا يقايض عليها، بل يربط مصيرها بمصيره، ويدعمها حتى الرمق الأخير. وهو لا يشجعها على التنازل، بل على مزيد من المواجهة، ولو كلّفها ذلك وجودها.
السبب الثالث، لأن المشروع الإيراني لا يقبل أنصاف الحلول، فإمّا الانتصار وإمّا الهزيمة. وهذا ما حصل مع الأسد في سوريا، وما يحصل مع “حماس” في غزة، وما سيحصل مع “حزب الله” في لبنان الذي أمامه فرصة للخروج المشرّف من هذا المشروع، لكنه يفضِّل البقاء فيه ولو أدّى ذلك إلى غرقه وموته.
ومن الواضح أن النظام الإيراني قرّر أن يلعب “صولد”، إدراكًا منه أن أي تنازل أو تراجع يعني نهاية مشروعه ونهاية الفكرة المؤسسة له، تلك التي أنفق من أجلها مئات مليارات الدولارات. وهو لا يتقبّل خسارة ما بناه، ولا خسارة ما هو أهمّ: المشروع الذي من دونه يفقد هويته ودوره.
ومن الواضح أيضًا أن إيران ما زالت ترفض التعامل مع الوقائع الجديدة، ولم تتعظ من الكوارث التي حلّت بمحورها، ولا من الضربة التي تلقّتها. وهي ترفض الحدّ من خسائرها، ومصمّمة على مواصلة المواجهة، ظنًا منها أن الظروف التي عاكست مشروعها ستتبدّل، غير أن هذه الظروف لن تتبدّل بفعل ثلاثة عناصر أساسية:
العنصر الأول والأقوى، هو إسرائيل التي أبعدت الخطر الإيراني عن دولتها، سواء داخل كيانها أو على حدودها، أو من إيران نفسها. وبإمكانها أن تُبقي على “الستاتيكو” الحالي الذي أصبح مناسبًا لها من زاويتين: إبقاء حالة الحرب قائمة رفضًا للتسليم بدولة فلسطينية لا تريدها، والحفاظ على التعبئة داخل مجتمعها، وهي جزء من عِلّة وجودها، خصوصًا بعدما أزالت الخطر كليًا من دول الطوق. أما الخطر الإيراني فتتعامل معه بالقطعة، كما حصل في الضربة السابقة التي أبعدت عنها الخطر لسنوات، وعندما يطلّ أي خطر جديد، تتعامل معه بالطريقة ذاتها. فالقلق أو الحذر يكون في المرة الأولى، وبعدها تصبح الضربات عادية.
العنصر الثاني، يتعلّق بالولايات المتحدة، حيث يسعى رئيسها إلى تتويج ولايته الثانية بإنهاء الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، وإنهاء أزمة الشرق الأوسط بشقَيها: إقامة دولة فلسطينية، وإنهاء الخطر الإيراني. وعدم تمكّنه من تحقيق الهدف الشرق أوسطي لا يعني أن إدارة أميركية جديدة ستعيد النظر بثلاثية: منع طهران من السلاح النووي، والصواريخ الباليستية، والدور التخريبي. فلا عودة إلى الوراء لا أميركيًا ولا إسرائيليًا مع إيران، وأي إدارة جديدة ستنطلق من النقطة التي وصلت إليها الأمور مع طهران، وهي واهمة إذا راهنت على تساهل جديد معها.
العنصر الثالث، يتعلّق بالمقاربة الإسرائيلية ـ العربية ـ الغربية التي تفضّل الإبقاء على دولة إيرانية فاشلة ومحاصَرة ومجرّدة من عناصر القوة، على إيران متجدّدة تعيد خلط الأوراق والتوازنات في المنطقة. وهذا يعني أنه لولا هذه المقاربة لكان تمّ إسقاط النظام الإيراني، وأن استمراره لا يعود إلا إلى تفضيل نموذج الدولة الفاشلة المنزوعة الأنياب، على غرار نظام صدام حسين بعد اجتياح الكويت، ونظام الأسد بعد الثورة السورية.
لكن هذه المقاربة لا تعني الصبر طويلًا على النظام الإيراني وأذرعه. فإذا حاولت إيران مثلًا شنّ حرب ضد إسرائيل، ستكون الضربة الثانية لها قاضية، وفي حال حاول “حزب الله” إطلاق صاروخ واحد على إسرائيل، سيتم القضاء عليه فورًا. وبالتالي، فإن الوقت المعطى لإيران ليس من أجل إعادة بناء مشروعها العسكري، بل فقط لإعادة النظر في حساباتها السياسية. فالمطلوب نزع أذرعها العسكرية والأمنية وأسلحتها النووية والبالستية، وهذا الأمر غير قابل للنقاش ولا الحوار، ولن يُسمح لها بتاتًا بإعادة تكوين قوتها من جديد.
أمام إيران فرصة للحفاظ على نظامها، لكن مشكلتها لا تختلف عن مشكلة صدام حسين وبشار الأسد لجهة أنها ما زالت ترى نفسها قوية، فيما النظرة الحقيقية إليها هي أن سقوطها يتوقّف على مجرّد قرار لم يُتخذ بعد، وعند اتخاذه تسقط في غضون أيام. وبالتالي، إذا تمسكّت بثلاثيتها النووية والتوسعية والباليستية، وتمسكّت بسياسة “الصولد” التي تتبعها، فإن نهاية نظامها ستكون حتمية، واستطرادًا فإن نهاية ذراعها في لبنان ستكون حتمية بدورها.
