Site icon IMLebanon

قضية النفط والحاجة الملحة لحوار علني.. وصريح

من المفارقات العجيبة في لبنان انه يحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية من حيث وفرة وسائل الإعلام بكل أشكالها وارتفاع مستوى التعليم، بما في ذلك ما لا يقل عن 28 جامعة، في حين انه ما زال يشكو من تأخر مذهل عن معظم البلدان العربية الأخرى وغيرها من البلدان النامية، في معالجة العديد من القضايا الوطنية، الكبيرة منها والصغيرة، التي تمس مصالح المواطنين الأساسية وشتى أوجه حياتهم اليومية.

ومن الأمثلة على ذلك فضيحة النفايات والعجز المتزايد الذي لامبرر منطقيا له في قطاعي الكهرباء والمياه، وكارثة تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون وغير ذلك من الغذاء الى الماء، مرورا بالهواء الذي يحق للبنانيين تنشقه. اما فهم أسباب هذه المفارقات، فلا يحتاج الى تحاليل المختصين في علم الإجتماع، اذ ان المواطن العادي يعرف تمام المعرفة ان السبب الرئيسي يعود الى تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وتفشي الفساد الذي أصبح لسوء الحظ ينخر مفاصل الدولة.

مثال حي آخر على المفارقات التي نشاهدها والتي قد تترتب عليها تداعيات كارثية، هو التباعد بين ما حققته منذ أكثر من خمسة عقود البلدان العربية وغيرها في مجالي البترول والغاز، من جهة، والجدل العقيم الذي ما زال دائرا عندنا حول أمور بدائية من نوع تحديد نظام استثمار هذه الثروة الموعودة، او ضرورة مشاركة الدولة في هذا الاستثمار، او تطوير شركة بترول وغاز وطنية. هذا الجدل يكاد يوحي وكأن بعض المسؤولين عندنا يعيشون على المريخ، بدلا من ان ينظروا الى ما فعلته كل الدول العربية دون إستثناء وسائر دول العالم، وبدلا من ان ينظروا الى ذلك نظرة المسؤول عن مصلحة بلده، دون أي اعتبار أخر، ولو فعلوا ذلك، لرأوا دون كبير عناء، ان كل هذه الدول قد أنشأت وطورت منذ ما لا يقل عن نصف قرن شركات وطنية تعنى بشؤون الطاقة، بما فيها شركات بترول وغاز طبيعي تغطي نشاطاتها كل أوجه هذا القطاع ومراحله، من البحث العلمي الى التسويق، مرورا بالتنقيب والإنتاج والنقل والتكرير والعديد من الصناعات والخدمات المرتبطة او المتفرعة عن هذا القطاع الحيوي.

ولو فعلوا لرأوا ايضا ان شركات البترول والغاز الوطنية قد اصبحت تلعب دورا اساسيا في تنشيط الاقتصاد الوطني، وذلك حتى في بلدان غير منتجة للبترول كالمغرب او المملكة الأردنية، وان النرويج، التي يدعي بعض أعضاء هيئة البترول الإقتداء بها، قد وضعت، في طليعة ما سمي «الوصايا» التي تبناها البرلمان النرويجي في العام 1971 لرسم سياسة البلاد البترولية، الضرورة القصوى لتطوير شركة نفط وطنية. وهذا ما حصل فعلا منذ العام 1972 عندما تم تأسيس الشركة الحكومية «ستاتويل»، دون انتطار إكتشافات تجارية في مناطق بحر الشمال حيث حصلت على حقوق تنقيب وانتاج. مما يعني ان إنشاء «ستاتويل» تزامن بشكل طبيعي مع انطلاق سياسة النرويج النفطية، دون التريث ست سنوات، كما اعلن ذلك مدير الدائرةَ الاقتصادية في هيئة البترول خلال ندوة عقدت في الجامعة اللبنانية في تشرين الأول 2015. وقد لا يكون من باب الصدف، كما لفت البعض، ان هذه الفترة الزمنية تطابق تماما فترة المهمة الموكلة للهيئة المذكورة، وان البعض راح يقول ويكرر ان انشاء شركة نفط وطنية في لبنان ينطوي حاليا على خطر «الإزدواجية»، وان الكلام عن الموضوع سابق لأوانه!…

أضف الى ذلك ان سياسة النرويج البترولية قد امتازت منذ البداية، اي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بترسيخ الشفافية من خلال حوار وطني عام وسيل من الدراسات والتقارير البرلمانية التي غطت كل أوجه صناعة النفط الناشئة. وكانت هذه الشفافية وما تزال درعا واقيا ضد الفساد واستغلال السلطة لمآرب خاصة. اما ما حصل عندنا، فهو عكس ذلك تماما اذ ان المواطن اللبناني ما زال محروما حتى من حق معرفة الشروط المقترحة لاستثمار ثروة بلاده النفطية.

مثال آخر على تعاسة معالجة قضية البترول والغاز عندنا هو المقارنة مع ما حصل ويحصل في بلدان قريبة كمصر وتونس والجزائر وغيرها حيث تناقش شروط الاستثمار علنا في المجلس النيابي وغيره قبل ان يصار الى إقرارها ونشرها. الأمر نفسه حصل عند عدوتنا اسرائيل حيث لم تتم موافقة البرلمان (الكنيست) على القانون البترولي الذي صدر في 3 آذار 2011 الا بعد حوار علني وشفاف أشرفت عليه لجنة خاصة برئاسة الاستاذ الجامعي ايتان شيشنسكي، وشارك فيه كل من كان له وجهة نظر في هذا الموضوع، من النواب ورجال قانون واقتصاد وسياسيين واعلاميين، وحتى شركات البترول المعنية. وقد نشر تقرير اللجنة المذكورة في 3 كانون الثاني 2011، أي قبل شهرين من الموافقة على القانون البترولي الذي يتضمن كل التفاصيل حول اشراف الدولة على هذا القطاع، وشروط نظام الاستثمار، بما في ذلك إتاوة 12,5% من قيمة البترول او الغاز المنتج (مقابل 4% لا غير يتكرم بها على اللبنانيين احد مشروعي المرسومين العالقين)، وضريبة تصاعدية على الارباح… في حين ان مشروع القانون الضريبي الخاص بقطاع النفط عندنا ما زال يتأرجح منذ أكثر من ثلاثة اعوام بين تصاريح المسؤولين، الخ… اما فيما يتعلق بسوء استعمال السلطة والفساد، فأخباره عند بعض كبار المسؤولين القابعين في السجون الاسرائيلية، من أمثال رئيس الدولة السابق موشيه كاتساف الذي كان من هواة التحرش بموظفات مقر الرئاسة، ورئيس وزارة ومجرم حرب، صاحب الاسم المشؤوم ايهود اولمرت، لتقاضيه عمولات تقدر بحوالي 160,000 دولار، او وزير المالية السابق ابرهام هيرشون الذي حكم عليه بالسجن لمدة خمسة اعوام لاختلاسه 500,000 دولار من أموال حزبه السياسي.

أضف الى ذلك ان التشريعات البترولية في النرويج واسرائيل، او اي بلد آخر متقدم او غير متقدم، لا تتضمن ايا من الانحرافات والشطحات التي يمتاز بها مشروع المرسوم الخاص بالشروط المقترحة لعقود الاستكشاف والانتاج في لبنان، من نوع تعطيل دور الدولة او التفريط بما يحق للبلد المنتج من دخل مالي كالإتاوة والعلاوات والرسوم، او اعتماد اسلوب المزايدة لتحديد فترة استرداد النفقات الرأسمالية (Capex)، وحتى تحديد نصيب الدولة من الارباح (مادة 23 ومادة 24 من مشروع المرسوم المذكور). وهو أسلوب غير مألوف في البلدان الاخرى لسببين: اولهما انه يحول دون الشفافية التي تحتاجها الشركات في مرحلة استدراج العروض… اما السبب الثاني فهو انه يشكل واحدا من المزاريب الرئيسية للعمولات أثناء الأخذ والرد حول عناصر المزايدة بين ممثلي شركات عملاقة وموظفي الوزارة وهيئة البترول.

هذه الانحرافات غير المسبوقة تفسر اصرار الجهات المعنية على سرية المراسيم العالقة وعلى الإسراع في إقرارها. كما ان الشفافية وانتهاج سياسة بترولية واضحة غايتها المصلحة العامة دون غيرها يفسران نجاح النرويج ونجاح شركة «ستاتويل» التي اصبحت تحتل اليوم مكانتها بين أكبر شركات البترول في العالم. الاسباب ذاتها تفسر ان اسرائيل سبقتنا الى اكتشاف الغاز وانتاجه على مسافة قريبة من سواحلنا، كما تفسر ان شركات النفط الوطنية في كل البلدان العربية، دون ان ننسى كردستان، اصبح بامكانها منذ سنوات طويلة ان ترسل للبنان من يشرح للبعض، انطلاقا من أبجد، هوز، حطي…، بديهيات ضرورة إنشاء شركة نفط وطنية وحقيقة دور الدولة المحوري ومسؤولياتها في هذا المجال الحيوي.

وبعد ان اضعنا من السنين ما فيه الكفاية، اصبحت الضرورة أشد الحاحا من أي وقت مضى لإطلاق حوار وطني علني وصريح حول استثمار ثروة يتوقف عليها، لعقود عدة، انعاش اقتصادنا ومستقبل شبابنا. وغني عن القول ان اسهل واسرع طريق الى هذا الحوار هو ندوة او عدد من الندوات المتلفزة او في وسائل اعلام اخرى، يشارك فيها كل من له رأي في هذا الموضوع. ولا شك انه لن يكون من الصعب عندئذ على اللبنانيين ادراك مخاطر سياسة التعتيم الحالية، واعطاء رأيهم حول قضية وطنية بهذا الحجم، وحول افضل السبل لاستثمار ثروة هي اولا وآخرا ملك لهم.