Site icon IMLebanon

اللبنانيون في الخارج: المُسترخَصون الجدد

 

“الخناق” يضيق على أبناء الأرز وأسواق العمالة التقليدية تُقفل أبوابها في وجوههم

 

 

لم يضرب فساد الطبقة السياسية لبنانيي الداخل وينعكس تراجعاً في الطلب عليهم في مقاصد التوظيف التقليدية فحسب، إنما طال أيضاً لبنانيي الخارج. ما يُبرر حالياً بأزمة كورونا وإقفال الدول وانخفاض المعروض من الوظائف.. ما هو في الحقيقة سوى مسار تصاعدي بدأت ملاحظته قبل سنوات قليلة مضت، و”سيتوّج” العام القادم بأرقام قد تكون قياسية.

 

فقدان الشهية على العمالة اللبنانية سيبلغ بحسب التقديرات ذروته في العام 2021. فمع تخفيف إجراءات الإغلاق والعودة إلى فتح أسواق التوظيف حول العالم، سيصاب عشرات آلاف الشباب اللبناني الباحث عن فرصة عمل بخيبة أمل كبيرة. فـ”اللبناني كـ”Brand” لم يعد لديه نفس القيمة كما كان سابقاً”، بحسب الخبير الإقتصادي جهاد الحكيّم، “وعروض العمل (offers) التي تقدم تشهد تراجعاً ملحوظاً في قيمتها المادية والمزايا التي تتضمنها. وهذا ما بدأتُ ملاحظتهُ والتحدث عنه منذ حوالى العام تقريباً”. أما اليوم فان الأمور أصبحت أصعب بكثير “لدرجة قد يصح معها القول إن الليرة هي أقل ما خسرناه بالمقارنة، مع خسارتنا لسمعتنا في الخارج والقيمة المضافة التي كنا نمثلها اينما حللنا”، من وجهة نظر الحكيّم. “فالخارج سيتعامل معنا من منطلق أننا بلد منكوب إقتصادياً، وشبابه بمعظمهم فقدوا رفاهية اختيار الوظائف وفرض شروطهم”.

 

خسارة القدرة التفاوضية

 

ما يتحدث عنه الحكيّم، يترجم على أرض الواقع بأحاديث عشرات الشبان والشابات اللبنانيين عن تبدل عروض العمل التي يتلقونها من الخارج. فالشيف محمود كان لا يعير أي اهتمام لعروض العمل التي لا تتضمن مأكلاً ومسكناً وتذاكر سفر مجانية أو بنصف قيمتها تضمن له رحلتين خلال العام، وراتباً لا يقل عن 3 آلاف دولار. فالغربة بنظره “لها ثمنها”. لكن مع صرفه من العمل وإقفال الفندق الذي كان يعمل فيه في أواسط 2019، اضطر مطلع هذا العام للقبول بعرض من إحدى الدول العربية بقيمة 1000 دولار فقط مع منامة. “فالمستقبل أصبح معدوماً في هذا البلد”، على حد قوله. “والمهم أن نخرج بأي ثمن”.

 

الواضح ان اللبناني الباحث عن فرصة عمل قد خسر قدرته التفاوضية في الخارج كما في الداخل. وقد أصبحت الأغلبية من جيش الباحثين عن عمل ترضى بأقسى الشروط. ولم يعد المسمى الوظيفي والراتب والتقديمات الإجتماعية والتأمينية والوجهة التوظيفية هي المعايير التي تحدد القبول أو الرفض، إنما رضى رب العمل وقبوله بالمعروض. أما السبب فلا يعود فقط لضغط الأزمة الإقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة، إنما أيضاً إلى “ندرة فرص العمل المفتوحة في الخارج بسبب ما فرضه فيروس كورونا من إقفال وصرف عمال وموظفين، وتحديداً في مقاصد العمل التقليدية للبنانيين”، بحسب رئيسة مجلس إدارة شركة “كاريرز” للتوظيف تانيا عيد. “حتى ان العاملين في الخارج أصبحوا يخشون أخذ إجازاتهم وفرصهم والعودة إلى لبنان خوفاً على إمكانية فقدانهم لعملهم”. عيد التي لا تلحظ تغييراً في عروض العمل “لأنها غير متوفرة أساساً”، تعتبر ان “انخفاض قيمة العروض هو أمر طبيعي نتيجة زيادة الطلب على التوظيف عن العرض”. وبرأيها فانه “حتى مع فك أسواق الدول العربية والأجنبية إجراءات العزل تدريجياً فان الطلب على اليد العاملة اللبنانية لن يرتفع. فالحصار على لبنان مستمر والخناق يضيق كل يوم أكثر من الذي سبقه”.

 

أسواق عمالة جديدة منخفضة الدخل

 

جمعية “Rethinking Lebanon” التي انطلقت في العام 2016 بمهمة أساسية تتمثل في تمكين الشباب اللبناني وتوجيههم في رحلة لإعادة تشكيل مستقبل لبنان تشهد على الواقع المرير. فأكثر من 50 في المئة من أصل آلاف الشباب والصبايا من أصحاب الشهادات المنضوين تحت لوائها قد تركوا البلد بالفعل. عدد غير قليل منهم سافر أخيراً إلى مصر. وبحسب الحكيّم فانه “قد يكون مفهوماً أن يستثمر اللبناني وينشئ المشاريع في مصر كونه إقتصاداً واعداً، إنما أن يسافر للعمل بوظيفة هناك فهذا دليل على تراجع المستوى المعيشي للبنانيين إلى درجة أصبحت معها الرواتب التي يقدمها الاقتصاد المصري للعمال الأجانب أكثر من كافية”. وهذا الواقع سيتعزز أكثر في المستقبل نتيجة إقفال العديد من الدول أبوابها أمام اللبنانيين لاعتبارات عديدة”.

 

التحويلات تتراجع

 

النتائج المباشرة لتراجع الطلب على العمالة اللبنانية من المتوقع ان تنعكس إنخفاضاً في التحويلات الخارجية بالعملة الصعبة خلال الأعوام القادمة. هذا الأمر يأتي “بعد تسجيل مداخيل اللبنانيين العاملين في الخارج تراجعات بنسبة تراوحت بين 20 و30 في المئة، نتيجة الأزمة من جهة وارتفاع حالات الصرف من العمل في الخارج من جهة أخرى”، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. إلا انه وعلى الرغم من هذا فان “التحويلات لم تتراجع هذا العام بأكثر من 25 في المئة بالمقارنة مع السنة الماضية. وهو ما شكّل دعامة أساسية للاقتصاد اللبناني وساهم بتعزيز عرض الدولار. خصوصاً بعدما شهد إنفاق اللبنانيين في الخارج تراجعاً من حدود 14 مليار دولار في العام 2019 إلى حوالى 7 مليارات هذا العام، أي بنسبة 50 في المئة”. وهذا ما جعل، برأي شمس الدين، الدولار متوفّراً لكن ليس معروضاً. “فتخوف اللبنانيين من غياب الحل السياسي وانعدام ثقتهم جعلهم يتمسكون بالدولار حتى الرمق الأخير”. شمس الدين الذي يؤكد أن وجهات العمل ما زالت مقفلة بسبب “كورونا”، يعتبر ان تحديد الوجهات الجديدة للعمالة اللبنانية وموقف الدول من لبنان لن يظهر قبل بدء فك إجراءات الحظر في شباط وآذار القادمين.

 

تراجع التحويلات سيأخذ منحى تصاعدياً من الآن فصاعداً، “خصوصاً مع انهيار سعر الصرف وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي”، يقول الحكيّم. وبرأيه فان “التحويلات ستقتصر على إرسال المغتربين مبالغ مالية تؤمن لذويهم الاكلاف المعيشية أو الضروريات فقط”. في حين ستنعدم التحويلات إلى المصارف أو للاستثمار بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

الخناق يضيق على رقاب اللبنانيين من كل اتجاه. فالعلامة المميزة (Brand) التي كان يمثلها لبنان ضربت في الصميم. وأصبح اللبناني يمثل للخارج رقماً مثله مثل عمال أكثر الدول تخلفاً وفساداً، وليس قيمة مضافة. فمهما علا شأن الفرد وتألق، يبقى في النهاية حاملاً لصورة بلده الأم، وقيمته، أو أحد مكوناتها الأساسية، من قيمة وطنه. ضُرب الوطن وضُربت أشهر علاماته المسجلة عالمياً (ماركاته): آتٍ من لبنان.