Site icon IMLebanon

«القالب» ديموقراطي و«القلب» ديكتاتوري!

فضيحةٌ تلك التي وقعت في المجلس النيابي، وعلى ثلاثة أيام. وحسناً أنها منقولة بالصوت والصورة، ليرى العالمُ كلّه ويسمع هؤلاء الذين ينصّبون أنفسَهم أوصياء على القرار اللبناني، وليعرفوا مرة جديدة أنّ لبنان أشبهُ بطائرة في الجوّ، تخطفها عصابة!

 

عندما اندلع «الربيع العربي» عام 2010، واهتزّت كياناتٌ وأنظمةٌ عربية، بقي كثيرون مقتنعين بأنّ «نارَ الربيع» لن تجتاح لبنان في طريقها. فالكيان اللبناني أُشبِع اهتزازاً على مدى نصف قرن من الحروب والنزاعات… ولم يسقط.

وأما نظامُه فليس عرضةً للسقوط، لأنه ربما يكون الديموقراطي الوحيد في غابة الأنظمة العربية. وتجميلاً، يذهب البعض إلى القول: لا «نظامَ» أساساً في لبنان!

على الأرجح، لم يقع لبنانُ في حربٍ أهلية جديدة لأنه استنفد كلّ وقوده القابل للاشتعال في الحروب السابقة. وأما النظام اللبناني فشأنٌ آخر. فهو عملياً، على غرار غالبية الأنظمة الإقليمية، يستأثر بالسلطة وينتهك حقوقَ الشعب ويتجاوز الدستورَ والمؤسسات والقوانين.

أيّ نظام هو القائم اليوم في لبنان؟

1- قبل «اتفاق الطائف»، كان لبنانُ خاضعاً لتحالف زعماء العائلات والطوائف التقليدية. فالبيوتاتُ السياسية كانت تنصِّب نفسَها وكيلةً للطوائف على الناس. واقتضى دستورُ 1926 الذي عاش حتى «اتفاق الطائف» في 1989، أن يتمركز الحكمُ على نفوذ رئيس الجمهورية الماروني.

إذاً، سُمّي ذلك «نظام الامتيازات الماروني» أو نظام الحكم الطائفي. لكنّ قوى الاعتراض والإصلاح والتحديث والعلمنة وقعت هي نفسها ضحية الاستثمار السياسي والطائفي مع اندلاع حرب 1975، إذ انخرطت فيها وباءت محاولاتُ تغيير النظام بالفشل.

2- جاء «اتفاق الطائف» ليُحدِثَ تغييراتٍ في ذلك النظام. وأمكن لهذا التغيير أن يحقّقَ الهدفَ القديم، إلغاء امتيازات الرئيس الماروني. فالمسيحيون خسروا الحربَ عسكرياً، بعد هزيمة العماد ميشال عون في مواجهة سوريا، والحرب المسيحية – المسيحية المدمّرة.

تحكَّم السوريون بتنفيذ «الطائف»، وفقاً لمصالحهم. لكنّ «نظام الرئيس الماروني» لم يسقط لمصلحة التغيير الديموقراطي اللاطائفي. واستفادت قوى طوائفية أخرى، سنّية وشيعية ودرزية، من علاقاتها الطيّبة مع دمشق ومن غياب القوى المسيحية عن الساحة، نفياً وسجناً. لقد تكفّل «الطائف» بتكريس النظام الطائفي في لبنان، لكنه نقل القوة من يدِ الرئيس الماروني إلى أيدي القوى غير المسيحية.

3- في العام 2005، كان هناك اعتقادٌ بأنّ الانتفاضة الشعبيّة التي شكّلت قوة الدفع لخروج القوات السورية من لبنان هي نفسها ستشكّل القوة الكفيلة بتحقيق التغيير المنتظر في النظام.

وراهن كثيرون على أنّ القوى اللبنانية المختلفة، التي ذاقت كلّها مداورة، طعمَ المرارة والخيبات، ستكتشف السبيلَ إلى تغييرٍ حقيقي في النظام نحو الديموقراطية الحقيقية والحداثة. لكنّ انخراطَ غالبية هذه القوى في لعبة المحاور الإقليمية عطّل التغييرَ مرّةً أخرى.

ومع انطلاق «الربيع العربي» في 2010، ساد اعتقادٌ لدى البعض بأنّ «انتفاضة بيروت» 2005 كانت الحلقة الأولى في مسار هذا «الربيع»، بل كانت شرارةً له. وقد يكون في ذلك بعض المبرّرات، لكنّ النظامَ اللبناني بقي ينتظر التغيير، كما أيّ نظام عربي آخر.

ومع ثبوت أنّ «الربيع العربي» لم يكن سوى خريف يُراد منه إغراق العرب في حروبهم «لينضجوا بدمائهم»، وأنّ المستفيدَ الأوّل منه هو إسرائيل، فشلت تماماً محاولاتُ التغيير العربية. ومعها، فشل اللبنانيون في «تغييرهم» المنشود مرة أخرى.

والمثير هو أنّ لبنان استعاد النموذجَ التقليدي للنظام الذي كان قائماً منذ نصف قرن، والذي انقلب عليه معظم القيّمين اليوم على السلطة، وخاضوا الحروب في مواجهته. وتبرز من جديد ملامحُ نظام يتأرجح ما بين النظام الرئاسي الذي كان قائماً قبل «الطائف» ونظام «الحلف الثلاثي» الطائفي الذي حلّ محلّه بعد «الطائف».

وفي عبارة أوضح، الرئيس الماروني يقودُه «حنينُ القوة» إلى استعادة ما كان قبل «اتفاق الطائف». فهذا الاتفاق يرمز إلى هزيمته العسكرية وإقصائه. وفي المقابل، يتحسَّس «الحلفُ الثلاثي» هذا الحنين، فيردّ بتكريس مفاعيل نظام الطائف. والجميع يتحسَّب لدور اللاعب السوري، ولو مِن بُعْد، في مرحلة التطبيع الآتية.

إذا توافق الرئيس و«الحلف الثلاثي»، فذلك يُسمّى في لبنان «ديموقراطية توافقية». وهي تسميةٌ يصعب شرحُها في علم السياسة. لكنها عملياً ترجمةٌ لتواطؤِ القوى السياسية – الطائفية على تقاسم النفوذ والمصالح، ولو على حساب الدستور والقوانين والمؤسسات.

وأما إذا اختلفا، فستتعطل هذه «الديموقراطية التوافقية»، وسيتعطل البلدإلى أن يتمكّن أحدُ الطرفين من هزيمة الآخر! وجاء «لقاءُ كليمنصو» ليذكّرَ الحريري بأنّ موقعه «الطبيعي» هو في «الثلاثي» مع بري وجنبلاط لا في الثنائي مع عون.

لكنّ ما جرى في جلسات إقرار الموازنة كان فضيحة لا يمكن إخفاؤها. فتحت ستار «الديموقراطية التوافقية»، تمّ إمرار التجاوزات والصفقات والاتهامات والهدر والفساد، وتهرَّب الجميع من المسؤولية. ولأنّ الذين هم في المجلس النيابي هم أنفسهم في الحكومة أيضاً، فقد تمّ الاستقواء على الأصوات الاعتراضية أو إسكاتها وتجاهلها، وتمّ انتهاك الدستور والقوانين والمؤسسات.

في الأنظمة السياسية، إما ديموقراطيةٌ وإما تَوافُق. ولكن، في «الديموقراطية التوافقية» اللبنانية، مَن يسأل مَن، ومَن يُسائل مَن؟ إنها عملياً «ديكتاتوريةٌ توافقية» تقمع أصوات الاعتراض وتتجاوزها وتتجاهلها: «القالب» ديموقراطي… و«القلب» ديكتاتوري…!

في هذه الحال، يصبح تغييرُ هذا «النظام الديموقراطي» في لبنان حاجة ضرورية كما هو تغيير «الأنظمة الديكتاتورية» في بلدان عربية أخرى. وعلى اللبنانيين أن لا يخدعوا أنفسهم ولا يتفاخروا على أحد. والانتخاباتُ المقبلة، عندما تُجرى، ستؤكّد أنّ القطعان لا تزعجها الديكتاتورية!