يعود جذر أحداث السويداء المأسويّة لتقاطع مواقف أحمد الشرع، والإدارة الأميركيّة، ودول عربيّة مختلفة، على رفض الاعتراف بحقّ الدروز بالحكم الذاتي ضمن إطار فدرالي يحافظ على وحدة سوريا ضمن تنوّعها. كلّ ما قاله الشرع عن المسألة منذ أشهر اجترار لمسلّمات عقل أكثري مفطور على استعمال الحكم المركزي لفرض هويّته وخياراته على الآخرين بإطار تراتبي للاجتماع السياسي موروث عن نظام الملّة العثماني، وعن 1400 عام من تقاليد الحكم الإسلامي بالمنطقة.
من الناحية المصلحيّة المحضة، ماذا يريد أحمد الشرع من دروز السويداء؟ هؤلاء جماعة صغيرة (حوالى 700 ألف من أصل أكثر من 23 مليون سوري)، يعيشون بمنطقة فقيرة، لا موارد استثنائيّة فيها، ولا ضرائب فوق العادة ممكن أن تقدّمها للحكم المركزي. أيّ ضرر يمكن أن يحلّ بسوريا لو حكم الدروز أنفسهم بأنفسهم، من ضمن سوريا الواحدة، علمًا أنّهم لا يطلبون أكثر من ذلك؟ وحتّى لو فرضنا أنّ الحكم الذاتي، لو بدأ بالسويداء، يمكن أن يتوسّع ليشمل لاحقًا الأكراد، والعلويّين يبقى السؤال ذاته: وما الضرر منه؟ الثقل السياسي والاقتصادي والتربوي سيبقى بحلب ودمشق، واستطرادًا، بحمص وحماه، مهما فعلت الأقليّات. العراق لم ينفجر أو يزُل عن الخارطة لأنّ كردستان العراقيّة تحكم ذاتها بذاتها. أليس هذا النموذج – على مشاكله – أفضل من المشاهد المروّعة التي نراها منذ أيّام بالسويداء؟
سياسة إدارة ترامب بالمسألة السوريّة، إلى جانب التصريحات الخرقاء للسفير توم برّاك، فاقمت المشكلة. لم يخطئ ترامب لأنّه اعترف بسلطة الشرع. أيّ خيار آخر يملك بسوريا؟ الخطأ مزدوج، الأوّل حصل بالدعم الشخصي السريع للشرع، ولقائه ترامب، قبل أن يثبت أنّه قادر أقلّه على ضبط الفصائل السنيّة المختلفة على الأرض بسوريا، ومنها عشائر البدو؛ والخطأ الثاني المريع ظهّره تصريح برّاك بخصوص أنّ الفدراليّة لا تنفع بسوريا. لا ضرورة لخيال كثير للتقدير أنّ الشرع قرأ كلام ترامب وبرّاك كضوء أخضر للتعاطي مع الدروز كما تعاطى معهم. ويمكن التقدير، أيضًا، أنّ الشرع افترض أنّ الضوء الأخضر الأميركي يعني بالضرورة قبولًا إسرائيليًّا. بهذا أعاد الشرع تكرار خطأ وقع به أمين الجميّل في لبنان بالثمانينات يوم افترض أنّ الولايات المتّحدة قادرة حتمًا على توجيه سياسات إسرائيل كما تريد. لم تكن هذه المعادلة صحيحة آنذاك. ليست صحيحة اليوم.
وعلى سيرة العرب: كان لافتًا بالبيان الصادر عن وزراء خارجيّة هؤلاء قبل أيّام التشديد على وحدة سوريا ثلاث مرّات بنصّ قصير نسبيًّا. ومن يقرأ البيان، لن يرى أيّ مسألة أخرى تهمّ وزراء الخارجيّة بقدر وحدة سوريا، ولا حتّى، مثلًا، وقف المجازر الرهيبة التي قضت على مئات البشر بأيّام. واضح أنّ الوزراء لا يسألون أنفسهم أسئلة من نوع: هل حافظ الحكم المركزي على وحدة السودان، أو ليبيا، أو اليمن؟ بالمقابل: هل تقسّمت الإمارات لأنّها فدراليّة؟ أو العراق؟ الهلع العربي من الفدراليّة يدرّس. والكراهية العميقة لكلّ من هو مختلف، واحتقاره كمشرك، أو ذمّي، أو كافر، يدرّس أيضًا، علمًا أنّ جذر كلّ ذلك تفسيرات النصوص الدينيّة المؤسّسة.
نقطة أخيرة. ثرثر أنطون سعادة عن احتفاظ السوريّين بـ “سىلامة فطرتهم” لأنّهم رفضوا الاختلاط بسلالات الزنوج الذين ينتمون إلى “سلالة أحطّ من سلالتهم”. أين “سلامة الفطرة” بأحداث السويداء الآن، بل بأحداث المشرق كلّه منذ سنوات؟ وثرثر ميشال عفلق عن أمجاد العرب الضائعة التي سيستعيدها البعث، والقوميّون اللبنانيّون عن “مجد فينيقيا”. وثرثر اليسار العربي طبعًا عن الصراع الطبقي، والديالكتيك، والمراحل الخمس للاقتصاد. كم يبدو كلّ ذلك مفصولًا عن واقعنا. منذ مئة عام يتسلّى الفكر السياسي بمنطقتنا باختراع الهويّات، وبناء صرح من وهم يليه آخر. النتيجة: المجتمع وهويّاته العميقة بمكان؛ ولغتنا السياسيّة، وأدواتنا المعرفيّة، كما تفكيرنا، بمكان آخر. وقف شلّالات الدم على الأرض، مشروط بوقف الهراء بالعقول. وذلك، بدوره، مشروط بأن نفهم أنّ جماعاتنا شعوب؛ وبأنّ نزعة شعب من هذه الشعوب لفرض نفسه على الآخرين طريق سريع لانفجار الكيانات، لا لوحدتها؛ وبأنّ الحكم المركزي بدولنا مقدّمة لحروبها الأهليّة.
