التحوّل الكبير الذي تشهده المنطقة، لا يمكن أن يبقى في حالة رتابة وسط صراع أكبر مما كان عليه قبل «طوفان الأقصى».
في لبنان كما في فلسطين، تقود إسرائيل معركة مفتوحة، هدفها المُعلن والصريح هو اجتثاث المقاومة. والعدو يعرف تماماً ما الذي حقّقه في الحرب حتى الآن.
ويعرف جيداً أنه ليس في وضع يمكنه عبره ادّعاء إنجاز المهمة. والاستنزاف الذي يواجهه في غزة، لم يعد يقتصر على استمرار المقاومة ضد قواته، بل يتعلّق بفشل المشروع السياسي الذي كان العالم يعتقد بأنه مُحقّق حتماً.
وهو المشروع الذي يقوم على فكرة تهجير أكبر عدد من سكان غزة من جهة، وإخضاع بقية الناس كما أهل الضفة الغربية لحكم عسكري تظهيري يتجاوز بوحشيته ما عاشه الفلسطينيون بين عامَيْ 1967 و1987.
في لبنان، يتفاخر العدو بأنّه وجّه ضربة قاسية إلى حزب الله. يُكثِر قادته من السياسيين والعسكريين والأمنيين، من الحديث عن نوعية الضربات التي وُجّهت إلى المقاومة إبان الفترة الماضية. لكنهم، يعودون في كل مرة إلى المربع الأول، عندما يتحدّثون عن حاجتهم إلى عمل كبير من أجل الإجهاز عليها.
والمشكلة في لبنان، لا تتعلق فقط بالبعد الميداني – العسكري، حيث يقرّ العدو بأن فكرة القضاء على المقاومة ليست قابلة للصرف، بل في كون إسرائيل تواجه مأزق عدم تحقّق مشروع سياسي داخلي في لبنان، ينقل البلاد من ضفة إلى أخرى.
وكلّ النقد الذي يتعرّض له أركان الحكم الجديد في لبنان من جانب الغرب وإسرائيل، ليس هدفه حثّهم على القيام بالمزيد ضد المقاومة، بل يُقصد منه التعبير عن الإحباط، من عدم حصول تحوّلات في المشهد السياسي اللبناني بالحجم الذي يقود إلى التغيير.
لكن، يبدو أن الغرب وإسرائيل يعيشان لحظة نشوة قابلة للتعاظم في ساحة أخرى، وتحديداً في سوريا، حيث مركز التحوّل الاستراتيجي الذي حصل بفعل الحرب الإسرائيلية – الأميركية الواسعة ضد كل من له صلة بمحور المقاومة. وحتى اللحظة، يمكن لواشنطن وتل أبيب الحديث عن سلطة جديدة في سوريا لا تناصبهما العداء فحسب، بل تتوسّل لبناء العلاقات الواسعة معهما لمواجهة «الأعداء المشتركين» على ما قال رئيس السلطة الجديدة أحمد الشرع. فيما تقود السعودية أكبر مشروع سياسي يخصّها في الألفية الجديدة، ويقوم على بناء نظام سياسي واقتصادي وعسكري وأمني في سوريا، يشكّل مركز القوة الخلفي لحاكم الجزيرة العربية. وهي عملية معقّدة وتحتاج إلى وقت طويل، وإلى أموال أكثر. لكنها تحتاج أيضاً إلى تسويات وتوافقات مع مراكز النفوذ في سوريا المُنهكة. وقد يكون أسهل على السعودية التوصّل إلى تفاهمات مع الأميركيين والإسرائيليين، من الاتفاق مع تركيا وآخرين مثل قطر والإمارات والأردن على مستقبل الحكم في سوريا.
لكنّ الأكيد وسط كل هذه المحاولات، هو أن الحكم الجديد في دمشق، بات منخرطاً بصورة مباشرة في مشروع عنوانه الرئيسي العداء لقوى المقاومة في المنطقة، وهو عداء لا يميّز بين جهة وأخرى، فهو يصيب حماس والجهاد الإسلامي كما يصيب حزب الله والفصائل العراقية.
وتنشط الأدوات الأمنية والعسكرية الجديدة في دمشق، من أجل ملاقاة الجهود الأميركية – السعودية – الإسرائيلية في ترتيب الوضع.
وتكفي الإشارة إلى أن الأجهزة الأمنية السورية، على حداثتها، تعمل بكل طاقتها ليس لوقف جرائم القتل على خلفية طائفية في أكثر من منطقة سورية، بل على وأد أي فكرة أو خطوة تتصل بعمل يكون ضمن مشروع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي المتوسّع في سوريا نفسها، والعمل بقسوة أكبر، ضد أي نشاط يقول حكام دمشق الجدد إنه يتّخذ من فلسطين عنواناً، لكنه يهدف إلى زعزعة الاستقرار في سوريا.
لكن، هل يمكن السؤال عمّا إذا كان التعاون أو التقاطع، بين سلطة دمشق الجديدة ومشاريع أميركا وإسرائيل، قد يقود إلى عمل مشترك، عسكري أو أمني ضد قوى المقاومة في بلاد الشام؟
مشروعية السؤال، مردّها إلى أن العدو لا يزال يخطّط لمستوى جديد من القتال على طول جبهته الشمالية – الشرقية، سواء مع لبنان أو سوريا، وصولاً إلى العراق أيضاً، وأن التقديرات حول ما يمكن أن تقدم عليه إسرائيل، لا يجب حصره في إطار عملية معيّنة، بل في اعتباره فعلاً، يُقصد منه إحداث تغيير كبير في الساحات المذكورة.
وبمعنى أدقّ، فإن المشروع الجدّي الذي يعمل عليه الأميركيون والإسرائيليون، هو التقدّم في أي حرب جديدة، نحو إحداث تغييرات كبيرة داخل هذه البلاد، بما يقود إلى تغييرات سياسية كبيرة على مستوى الحكم وعلى مستوى أدوات السلطة.
وهو ما لم يتحقّق في لبنان ولا في العراق، بينما يحتاج النموذج الجديد في سوريا إلى جهد كبير حتى يستقرّ على شكل واحد، علماً أن إسرائيل التي ترحّب بكل التنسيق الجاري مع سلطة دمشق الجديدة، تتصرّف وفق التعديلات الجوهرية التي طرأت على عقيدتها العسكرية والأمنية منذ 7 أكتوبر، وهي تعديلات تقوم على عدم الوثوق بأي عربي أو مسلم مهما كان ميله السياسي، وعدم الركون إلى الضمانات التي تقدّمها الولايات المتحدة نفسها، لا السعودية أو دول أخرى.
ثم إن مصدر القلق الإسرائيلي حيال الوضع في سوريا، يعود أيضاً، إلى ما تسرّبه الدبلوماسية الغربية نيابة عنها، حيث الكلام عن وجود تيار في المنطقة والإقليم لا يريد لحكم الشرع أن يستقر، وعن تقاطع مصالح قائم بين تحالفيْن، يضم الأول إيران ومصر والثاني الإمارات والأردن، وأن هذه الدول تجد نفسها في موقع قريب من تفاهم على أن الحكم الجديد في سوريا يشكّل تهديداً مباشراً لمصالحها، برغم تفاوت الهواجس، حيث خشية ملك الأردن من حكم الشرع تتجاوز بكثير هواجس أبو ظبي التي تخشى خسارة نفوذها في هذه المنطقة.
فيما تنظر مصر إلى الحكم في دمشق على أنه قد يتحوّل إلى نموذج يدعمه الغرب لتعميمه في دول كثيرة، من بينها مصر. أما إيران، فتتعامل مع الحدث السوري من زاوية التهديد الذي يتشكّل بفعل علاقة الشرع مع أميركا وإسرائيل على أمنها القومي من جهة، وعلى حلفائها في محور المقاومة سواء في لبنان أو العراق أو فلسطين.
ثمّة تحوّل هائل تسبّب به سقوط النظام السوري. والنقاش حول الأسباب وحول تقييم وضع النظام في سوريا، لا يغيّر من حقيقة أن هناك من نقل هذا البلد الكبير من ضفة إلى ضفة.
وهي عملية نقل، تترك أثرها على مصائر شعوب، وستكون فلسطين أولى ضحاياها.
وسط هذه المناخات، يطلّ العدو معلناً رغبته في توجيه ضربة إلى «رأس محور الشر» في طهران، وإذا ما حصل ذلك، فإن السؤال عن استقرار ساحات بلاد الشام، يصبح مشروعاً أكثر فأكثر!
