إنحراف جرمي في «لاعقلانية» السلطة الحاكمة!
لا يمكن النظر إلى الحدث الطرابلسي من زاوية واحدة أو زاويتين، أو أكثر، أو من عدسة «الإتهام السياسي»، و«الشيطنة» والمطلوبين بأكثر من مذكرة قضائية، أو ما شاكل بعض التقييم السياسي أو الأمني، أو حتى الإتهامي، لنشطاء، قيل أندسّ بينهم أصحاب سوابق، وعمدوا إلى تخريب أو تدمير أو مهاجمة أهداف رسمية، أو سلطوية، أو تنموية، عبر الحرائق، والمولوتوف، والقنابل الصغيرة، وأنواع شتى من حرائق الإطارات، أو مستوعبات النفايات..
يقتضي النظر إلى أحداث طرابلس الشعبية، من زاوية عقلانية، تطرح الأسئلة في سياقاتها، ولا تستبعد رؤية الواقع الملتبس، بتداعياته وتفصيلاته..
1 – هل ما حدث كان عبارة عن مؤامرة تستهدف تدمير هيبة الدولة، من عاصمة «الفقراء والأغنياء» معاً؟
2 – هل ما حدث هو مؤامرة خارجية تهدف إلى ربط الشمال اللبناني بالشمالين السوري والتركي؟
3 – هل فقراء طرابلس، هم وقود أدوار مشبوهة، في السياسات الداخلية، التي وصلت إلى حدّ، استباحة كل الوسائل، من أجل غاية سياسية، مشروعة أو ممجوجة، أخلاقية أو غير أخلاقية؟!
هذا النمط من الأسئلة، ينتمي إلى النظرة اللاعقلانية، إلى الحدث الطرابلسي، ويدغمه في سياق بهورات، بعض رجال السلطة، الذين رعدوا، وتوعدوا، وهددوا، وبعض من مآسيهم الشخصية عدّدوا، وبأفعال سياساتهم البشعة ما نددوا! أو في بيانات، كانت موضع شبهات، وأسئلة، واستدراجات، واستغلال آلام النّاس، وشقاواتهم، التي انفجرت، ذات لحظة، مبللة بإجراءات الإقفال، والطقس البارد، والرعونة المفتوحة على كل المجالات والألقاب..
وفي سياق حزمة الأسئلة، من زاوية تآمرية، يحتل النقاش، الذي يتعين أن يستند إلى الحجة، إلى رؤية منتظمة، في سياق مشروع لعواقب ما حدث، وتوظيفاته، في الأمن والسياسة والقضاء..
تكفي العودة إلى التغطيات التلفزيونية، والفيديوات، التي انتشر بعضها انتشار النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، من اليوتيوب إلى التويتر، فالفايس بوك، وسوى ذلك، من مواقع تتسم بالعمومية، وباتت بيد كل من يريد معرفة الوقائع الملموسة، الموضوعة في سياقاتها الحقيقية.. لمعرفة مسار الأحداث، وكيفية وقوع الإحتجاجات..
شاهدت، كما شاهد كثيرون غيري، من صحافيين، ومهتمين، وأناس عاديين، وقائع الصراخ، الذي كان ينطلق من حناجر الباعة، أو العمال المياومين، الذين انطلقوا من حيّ المنكوبين، الشهير، في عاصمة الشمال، كيف أن الرجال، ومعهم أطفالهم، عاجزون عن توفير ثمن ربطة الخبز، أو جرن الغاز (قنينة الغاز) أو حتى علب الحليب، والجبن وبودرة الحليب الناشفة أيضاً، لأطفالهم..
وشاهدت، كما شاهد كثيرون غيري، تلك المرأة التي وقفت تتصدر الساحة، وهي تصرخ مقرة بالواقع المرير، كيف انها على استعداد لتناول بقايا ما يوجد في أكياس القمامة، ولكن طفلتها لا يمكن ان تتناول ذلك! وهي ليس بإمكانها إلزامها بهذا..
وفي الخلفية رجل عجوز، يصرخ، بما أوتي من قوة، بأن مساعدات الـ400 ألف ليرة، للأسر الأكثر فقراً، تذهب هي أيضاً إلى جيوب المحاسيب..
أخطر ما في المشهد الطرابلسي، هو أن الضحية، يجلد مرتين أو ثلاثاً، وسط تعمية مقصودة لإضاعة الحقائق، والتعامل، من زاوية، تافهة محكومة، بالتقييمات الجاهزة، وبمنطق السلطة، الإنهزامي، والاتهامي، العاجز عن رؤية التفصيلات، الفعلية التي تقف وراء نوبات الغضب، أو ارتفاع هرمونات الإنفعال الشعبي، الذي يتحوّل إلى فعل هستيري، مع تنامي إجراءات الكراهية، سواء تلك المنبعثة من سلطة، أو إدارة، غارقة في الفساد أو المحسوبيات أو سوء التصرف والدراية والإدارة، لدرجة يعمى على قلوبهم، ويعيثون في الأرض فساداً..
عندما غنى جوزيف صقر: أنا مش كافر بس الجوع كافر، في إحدى مسرحيات زياد الرحباني، كان يُدرك، وطأة العوز، والفقر، والشحّ في إثارة غرائز البشر، الذين يتحركون بحثاً عن أمل، لن يجدوه إلَّا، وهم يحملون دماءهم على أكفهم، ويصيحون: عطشانين يا بلدنا.. جوعانين يا بلدنا، مع حسن علاء الدين (شوشو)، أو فنان الشعب..
لم تشهد مدينة، من مدن لبنان، حالة من تردي الفقر والعوز، كما شاهدت أحياء طرابلس الفقيرة.. إذ أن نسبة الفقر تجاوزت الـ55٪ إلى ما فوق 70٪، وما زاد الطين بلَّة، أن إجراءات الإقفال القسري في إطار خطة إعلان حالة الطوارئ الصحية، للحدّ من الإصابات المؤلفة من جائحة كورونا، والوفيات المتزايدة، والناجمة أيضاً عن متحورات هذا الوباء العالمي، البالغ الشراسة والخطورة، وهو جنَّن أو يكاد المعمورة ببشرها وحجرها وشجرها، واقتصادياتها ومترفيها وفقرائها على حدّ سواء..
قال رئيس بلدية طرابلس، رياض يمق بعبارة صريحة، ليس من السهل تطبيق إجراءات الاقفال في الاحياء الشعبية.. الصيادون وقفوا، في عز البارد القارس، قبالة مراكبهم الصغيرة (بواخر الصيد) يعلنون ان الوقت حان لهم لكسب رزقهم من مهنة الصيد، صيد الأسماك.. وتحريرهم من حدة إجراءات الاقفال وقساوتها، سائقو السيّارات والفانات، العمال المياومون، أصحاب بسطات بيع الخضار صغار الكسبة، الذين لا يعيشون يومهم، ما لم يكسبوا وريقات قليلة من الليرات اللبنانية، التي تهاوت قيمتها الشرائية، تحت وقع ضربات مسددة من ارتفاع سعر صرف الدولار في سوق القطع السوداء، حيث السعر يرتفع هستيرياً، ليلاقي ما تبقى من أسعار السلع التي زادت بما لا يقل عن 30-40٪ من مرحلة الاقفال، كل ذلك، تحت مرأى من بيانات الدعم والملاحقة، التي تصدر عن بعض العاملين في وزارة الاقتصاد بعدما كادت ان تختفي عن المسرح تماماً مصلحة حماية المستهلك..
وسط، هذه الإدارة الكارثية لملف كورونا، ولملف دعم الأسعار، التي عادت تتفلّت في ضوء ما يكشف كل يوم عن تهريب إلى هذه الدولة أو تلك، عبر معبر غير شرعي، ومعبر شرعي، أو حتى عبر مطار بيروت الدولي.. فإذا بالبنادول، وأطعمة الأنفلونزا، وأدوية بعض الأمراض المستعصية، تظهر في أفريقيا أو آسيا، في سوريا أو العراق أو مصر أو أية دولة أو عاصمة، يتمكن لبناني، أو عناصر المافيا من تهريبها إلى هناك..
شعر الطرابلسيون، الذين، تصدّروا لوائح مجموعات الحراك، منذ اندلاع انتفاضة 17 ت1 (2019)، ليس فقط بفقرهم، وعوزهم، بل أيضاً بأن مشاعر حقد وكراهية، يقابلون بها من الحكومة المعنية بمصالح البلاد والعباد..
تخلت السلطة الحاكمة عن واجبها الأخلاقي الذي ينظر إلى النّاس سواسية، ويسعى إلى توفير ما يلزم لهم من حاجيات، وأمن، وفرص عمل، وتخفيف مآسٍ، فزادت لدى هؤلاء النّاس المهمشين، العواطف والانفعالات، وهي الميكانيزمات التي تلعب دور التوازن في إدارة مصالح الأفراد، بمواجهة شعور بالخوف أو الكراهية أو الحسد، الأمر الذي يدفع بهم، في نهاية المطاف إلى العنف، وهو موقف أصيل في «اللاعقلانية» على حدّ ما يرى كارل يوبر، في كتابه: «المجتمع المفتوح وأعداؤه » (ص 336).
والسؤال الأهم: ما السلوك العقلاني في إدارة الدولة؟
بعد سنة مريرة، لم يعرف مثلها اللبنانيون في تاريخهم الحديث.. بدت الإنهيارات تعصف بكل شيء: فلا عقلانية الدولة، سمحت بانتقال هادئ، وسالم، وممكن بين حكومة مستقيلة، وأخرى يتعين أن تتألف.. ومن يرصد مسار الأزمة السياسية، يكشف كيف ان اللاعقلانية اللبنانية، هي التي تتحكم بكل شيء، في بلد آخر ما قال فيه صاحب مبادرة «حكومة مهمة» ايمانويل ماكرون (الرئيس الفرنسي الحالي) ان حكامه لا يستحقون ان يكونوا حكاماً عليه..
خرج أحدهم، ذات يوم، يتحدث عن الأقوياء في طوائفهم، مقترحاً تسوية، يتولى فيها الأقوياء، مراكز السلطة، في المؤسسات والمرافق والمناصب.. فماذا كانت النتيجة؟ هذا هو «الرئيس القوي» أو الأول، يدير الدولة، من زاوية صلاحيات، يتوسع في شرحها وفهمها، لدرجة أن حسابات الربح السياسي والطائفي، تتقدّم على ما عداها.. وتشل عملية تأليف الحكومة، وتهدّد النظام السياسي بكافة أشكاله وأطواره وأحواله..
وها هو «الرئيس القوي» في طائفة أخرى، يقاتل على جبهة إعادة الاعتبار لدوره، دون جدوى حتى الآن.. وتسلط عليه سهام الانتقادات والحرتقات، لدرجة بات من غير الممكن رؤية أي موقف، ينسجم مع متطلبات مرحلة عاصفة بالتحديات..
وقس على ذلك، في حسابات اللاعقلانية الحاكمة في لبنان، التي قلبت الوقائع والمعطيات… وحوّلت العواقب إلى أسباب، وتعامت عن النتائج.
لم تلجأ قوى السلطة الحاكمة، والغاشمة معاً، إلى إعادة درس لخطوة أو قرار أو موقف أو سلوك، من زاوية اعتبارات الحكم القويم، من زاوية النتائج المترتبة، أو الخطوات التي تلت.. بل هي تذهب باندفاعة السلطة، المزودة، بكل أدوات القمع واللجم، والمال، والإعلام، والقضاء، والعناصر الميليشياوية، فضلاً عن أدوات الأمن والحفاظ على النظام العام، المقصود بها القوى الأمنية والعسكرية.
من هذه الوجهة، فأحداث طرابلس، ليست أحداثاً مشبوهة، من زاوية نرجسية هذا المسؤول أو ذاك، بل هي انحراف في وضعية المجتمع، الذي يشعر بالغبن والقهر، واستباحة حياته، فخرج شاهراً سيفه.. كما دعاه ذات مرّة، الإمام علي، الذي يأخذه العجب، ممن يجوع ولا يخرج شاهراً سيفه..
ومن زاوية عقلانية إجتماعية، يبدأ فهم ما جرى ليبنى المعالجة عليه، قبل فوات الأوان؟!
