Site icon IMLebanon

اليونسكو «تصوّب» مسار التعليم: استثمارات أكبر ومزيد من الاستعمار التـربوي

 

 

بالشكل، تعيد اليونسكو تصويب مسار التربية والتعليم في العالم باتجاه تعليم مختلف ومدرسة مختلفة. لكن ما تطرحه، عملياً، هو إعادة إنتاج ما هو سائد بأشكال مختلفة تسعى إلى تثمير التعليم في العملية الاقتصادية والإنتاجية، وليس محاكاة الذكاءات المتنوعة والمشاعر الإنسانية والبيئات الاجتماعية

 

في عالم يتزايد فيه التعقيد وعدم المساواة، تعكف اللجنة الدولية المعنية بمستقبل التربية والتعليم في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) على إعداد تقارير لإعادة التفكير في التربية والتعليم، كان آخرها مشاركة مسودّة تقرير بعنوان «التعليم التجديدي»** (في مرحلة الصياغة)، يهدف إلى تحديد مسارات لبناء سياسات واستراتيجيات من شأنها اصلاح «مظالم» الماضي.

 

في مقدمة التقرير إقرار بـ «لا عدالة النظام التعليمي في مختلف البلدان»، وأن «هناك حاجة إلى تغيير جذري في تصميم أنظمة التربية والتعليم وتنظيم المدارس والمؤسسات التعليمية الأخرى والمناهج والأساليب التربوية»، وأن جائحة كوفيد 19 «كشفت أهمية التحول إلى تعليم مختلف ومدرسة مختلفة»، و«أننا وصلنا إلى نهاية دورة تاريخية، وأن أنماطاً تربوية جديدة بدأت تتشكّل في الأفق».

إلاّ أنّ فكرة بناء «التعليم العام المشترك»*** التي يطرحها التقرير لا تقدم حلولاً نوعية، بل تقع في إعادة صياغة المعمول به، أي مناهج مقيدة وإن كانت مختلفة من حيث الشكل مع بعض التشاركية، وستعمل المؤسسات التربوية، رسمية وخاصة، والباحثون والتربويون على تأطير العملية التربوية الجديدة، بينما الاتجاه اليوم يجب أن يكون نحو تحرير التعليم من المناهج والمعايير إلى تعليم حرّ ومستقلّ متكيّف مع البيئة المجتمعية وذكاءات الأفراد المتعدّدة وحاجاتهم. فالمعايير المعرفية التي تحدّدها النظم المدرسية، لا تستطيع أن تجزم أن طفلاً تعلّم الزراعة في بيئته المجتمعية لا يتميّز بمعرفة وذكاءٍ عاليين لأنه رسب في الرياضيات على سبيل المثال! وأن ذكاءَه الموروث في الزراعة لا يُصنّف ذكاءً عالياً! هي لا تجزم نظرياً، لكنها عملياً تفعل، وتسحقه اقتصادياً!

ما لا يتعرّض له التقرير هو صلب المشكلة، أي أنه لا يخرج عن مقاربة المعالجة من الناحية الاقتصادية، ويتعامل مع موضوع التعليم والمعلّمين كما تعاملت الثورة الصناعية مع العمال عندما استبدلتهم بالآلات. صحيح أن التكنولوجيا مهمة، لكن دورها لا يجب أن يتعدى كونها أداة ناقلة للمعرفة والمعلومات مهما تعزّزت بالذكاء الإصطناعي. فلا يجوز اعتبار الرقمنة والمكننة بديلاً للإنسان بل مساعداً له. هذا الصراخ نحو تعليم مختلف محقّ، لكن ما يتم طرحه في التقرير هو إعادة إنتاج ما هو سائد بأشكال مختلفة، وإعادة تثمير التربية والتعليم في العملية الاقتصادية والإنتاجية المستقبليّة. واعتراف الدول الكبرى بفشلها التربوي الذي كشفته جائحة «كوفيد 19» هو قراءة مصلحية لإعادة صياغة العلاقة بين التعليم والإقتصاد. فلبنان، مثلاً، كما الدول النامية الأخرى، أظهر فشلًا مضاعفًا في إيجاد حلول طارئة لأزمته بسبب ركاكة نظامه التعليمي والتربوي، عدا عن عدم كفاءة المسؤولين السياسيين. وهذا سيجعل التربية والتعليم تقع في دائرة التوظيف الاقتصادي نفسها، كما حدث في الثورة الصناعية حيث تشبهّت المدرسة بالمصنع فكانت شبيهة بالسجن والمستشفى والأديرة والثكنات العسكرية. ومع الرقمنة ستتشبه بالمنظومات الإلكترونية والحلقات المالية الإفتراضية والتقنيات العالية حيث يتدفق المال الجديد وليس المشاعر الإنسانية والكفايات والذكاءات المتنوعة.

التوجه في التقرير هو نحو تضمين التعليم مفاهيم ومهارات إضافية بينما المناهج الحالية مثقلة بها، ولا يمكن للتربية والتعليم، واقعياً، تحمل كل هذه المهارات، والأهم، أنه لا يمكن للتلميذ استيعابها لكون اكتساب المعرفة لديه إنتقائياً وليس شمولياً. فالمناهج في لبنان، على سبيل المثال، تتضمّن تعليم لغة أجنبية إضافية وحشوًا لا فائدة منه، كما علينا أن نعي الرابط بين المتعة والتعلّم وأنواع الذكاء والبيئة المجتمعية وهذا ما نفتقده في لبنان. لا شك أن العدالة الاقتصادية والاجتماعية ليست متساوية بين المزارع وخبير في الذكاء الاصطناعي، إذ أن مستويات الدخل متفاوتة بشكل مخيف.

ما يطرحه التقرير هنا هو نوع من المساواة في الفرص من خلال «تعليم عام مشترك» سينتج عنه إتاحة فرصة للمزارع ليصبح خبيراً هو الآخر، بينما يقوم هذا التعليم بسلخه عن بيئته وميوله ويصطنع له ذكاءً افتراضياً، وبالتالي ينتزع منه فرصة انتمائه إلى الزراعة أو الموسيقى أو العلوم الإنسانية تحت عنوان المساواة والعدالة، كما أنه لن يقدمه كخبير، لكون معايير التقييم لا تنطبق عليه.

في هذه المقاربة مساهمة في تعزيز الهوة بين الطبقات الاجتماعية لمصلحة ربحية الشركات العملاقة. والسؤال هو: في حال تواجد مهارات رقمية لدى تلميذ من بيئة زراعية ألا يجب منحه فرصة متكافئة لتعلّم خبرات تكنولوجية متقدمّة ليصبح خبيراً هو الآخر؟ بالطبع نعم. ولكن ما هي الآلية وكيف يتمّ ذلك؟ هل من خلال «تعليم عام مشترك»؟

معلوم أن مقاومة التغيير هي فعل دفاعي للمؤسسات والأنظمة والدول التي استثمرت عشرات العقود وأموالًا طائلة لتصنع تعليمًا يخدم دورات الإنتاج في بلدانها. وهذه الدول «الراعية» لحقوق الطفل والإنسان، هي نفسها تضع العوائق، من خلال التربية والتعليم، فتعيق إنتقال الإنسانية إلى مستويات أكثر رقياً بوضع حدود تربوية وأطر ومعايير تتناسب مع اقتصاداتها تحت مسميات معيارية إنسانوية. وتمنع معايير أو تمنحها لمجتمعات أخرى (كالبكالوريا الدولية والفرنسية وS.A.T). هذا الاستعمار التربوي يؤرقنا، وما يجعلنا نخضع لهذا الاستعمار هو رغبتنا في حياة وفرص عمل أفضل في عوالم أكثر رخاءً. وبذلك تكون هجرة الأدمغة والكفاءات هي السبيل للخروج من مظالم النظام التربوي كما يحصل في لبنان.

التربية والتعليم ليسا معزولين عن حياة المجتمعات وتفاعلها. ومهما حاولت اليونسكو والمؤسسات الدولية دعم التراث والثقافات المحلية والوطنية، فإن هذه الثقافات ستكون معرّضة للزوال دومًا لأن الإستعمار التربوي و«بناء تعليم عام مشترك» يفرض معاييره على الشعوب من خلال الإتفاقات الدولية والجهات المانحة ويجعلها ملحقة بها. بل تسهم هذه الشمولية في اضمحلال الثقافات المحلية كما الحلول المحلية للأزمات وكل المفاهيم المتميّزة، فتجعل الأفراد يذوبون في المصنع التربوي. بأي منطق وحق نلقّن التلامذة الريفيين الأفكار والدروس والطموحات كالأطفال المُدنيين أو الأوروبيين؟ بأي حقّ نحشو رأس تلميذ مواد مختلفة بينما روحه في الموسيقى أو الرسم أو الطبيعة أو اللعب؟ بأي حقّ نمرّر مفاهيم «إنسانية» شمولية لا تصلح في بيئة التلامذة؟ كيف ستقنع تلميذاً في جرد بعلبك يعاني من الصقيع والبرد داخل صفّه أن درس اللغة الفرنسية أساسي لنمائه الفكري أو أن شرعة حقوق الطفل تحمي حقه في التعلّم؟

 

يدخل الصف الأول الأساسي نحو 90 ألف تلميذ سنوياً ويصل إلى الثانوي الثالث نحو 42 ألفاً

 

في استعراض للواقع التربوي اللبناني، تبدو نسب التسرّب المدرسي ضئيلة في الظاهر ونفتخر (رسميًا) أننا محونا الأميّة في لبنان. لكننا نعرف أن هذه الأرقام وهميّة وأن قسمًا كبيرًا من التلامذة غير المحظيين، خصوصاً في التعليم الرسمي، لم يبلغوا المستويات المعرفية الدنيا المناسبة لفئتهم العمرية.

هي السياسة التي تعتمدها الحكومات المتعاقبة لتسجيل إنجازات تتلقى الدعم الدولي على أساسها. ويتحول مؤشر النجاح والصيت خاضعاً لمعايير عالية لا يمكن للفئات الاجتماعية الأقل حظاً أن تكون جزءاً منه. فمعيار تمايز التعليم في لبنان هو تفوّق بعض المدارس الخاصة والمتميّزة بينما تعاني النسبة الأكبر من الأطفال في الرسمي والخاص من مشاكل تعلمية غير معلنة.

بعض الأرقام**** لتوضيح أشكال التسرب: يدخل الصف الأول الأساسي ما يقارب 90 ألف تلميذ سنوياً، ويصل إلى التاسع – بروفيه (تعليم إلزامي) نحو 60 ألفاً، ليصبح العدد 48 ألفاً في الثانوي الأول ويصل إلى الثانوي الثالث نحو 42 ألفاً (قبل إمتحانات البكالوريا).

في القطاع الرسمي يتدنّى عدد الواصلين إلى الثانوي الثالث إلى الثلث، بينما في الخاص إلى أقل من النصف بقليل! وبحسب الدراسات الدولية، فإنّ نصف الملتحقين بالمدارس لا يملكون الكفايات المناسبة لفئتهم العمرية. أرقام لبنان تؤكّد ذلك.

المدرسة إنتهت ولكن ليس التعلّم، المعرفة متوفرة والتعلّم هو فعل بقاء الإنسان. أمّا هذه الأطر الأممية فهي تحدّ التفكّر واستشراف المستقبل كما تُذيب خصوصيات المجتمعات لتصبح واجبات ضاغطة غير ممتعة فيهجرها التلامذة. التعلّم ممتع، ولكن أين نجده؟

 

* باحث في التربية والفنون

 

 

**رابط «مستقبل التربية والتعليم- اللجنة الدولية لمستقبل التربية والتعليم»

*** ورد في التقرير: التعليم العام هو التعليم الذي ترعاه الدولة. التعليم العام المشترك: يجب أن يُنظر إلى التعليم العام على أنه وسيلة لتعزيز إنتمائنا المشترك إلى الإنسانية مع تثمين الاختلافات والتنوّع في الوقت نفسه، التعلّم والدراسة مع الآخرين هو أفضل طريقة لتعزيز حياة مشتركة ومجتمع بهيج. من أجل ذلك نحن بحاجة إلى تعليم عام يُشركنا في حوار مع المجهول.

****المصدر: الأعداد الأولية للتلامذة للعام الدراسي 2019 – 2020 – المركز التربوي للبحوث والإنماء