IMLebanon

«فيينا السوري» على كف عفريت

لم يكن الأمر يحتاج إلى إسقاط طائرة السوخوي الروسية على يد أنقرة للكشف عن مدى هشاشة «ائتلاف فيينا«، والمسار الذي أطلقه بشأن مقاربة حلّ سياسي للأزمة السورية؛ فحادث الطائرة لم يُضف تعقيدات جديدة لهذا المسار «الملغوم» فحسب، إنما أظهر بجلاء مقدار التباين بين «المشروع الروسي« و«مشاريع« الآخرين، بما فيها «المشروع التركي«، على هذه البقعة الملتهبة من العالم التي اسمها سوريا، ووضع تالياً «مسار فيينا» كله على كف عفريت. 

وفي الواقع، فإن اسقاط الطائرة الروسية انطوى على رسائل عدة أرادت أنقره توجيهها إلى المعنيين. بعضها يتصل بمصير الأقلية التركمانية السورية، لكن الأهم منها يتصل بدور تركيا، كدولة جارة وكقوة إقليمية، في تقرير مستقبل هذا البلد الذي يجري رسمه في فيينا، أو في غيرها من عواصم العالم، وخصوصاً أن الحادث جاء بعد أقل من 24 ساعة على استضافة طهران للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واتفاق الأخير مع المرشد الأعلى خامنئي على «رفض أي إملاءات خارجية بشأن الحل المطروح في سوريا»، (روسيا وإيران أطراف داخلية، طبعاً، وليست خارجية في سوريا!!). 

وبمعنى آخر، فإن القضية الرئيسة المطروحة على بساط البحث هي؛ هل ستسمح أنقرة وغيرها من العواصم المعنية والمنخرطة في «مسار فيينا» لموسكو وطهران وحدهما، وعبر وجودهما العسكري المباشر في سوريا وتحت لافتة الحرب ضد «داعش«، أن تغلّب، حتى لا نقول تقرّر، هذه الوجهة أو تلك من المسار السياسي الذي يجري خطّه واشتقاقه في فيينا. 

قد يوحي مسار فيينا في أحد وجوهه وكأن روسيا تتحرك، كدولة عظمى، وفق أفق سياسي يتجاوز الأجندات الضيقة لبعض أطراف الصراع في الساحة السورية. المؤشر إلى ذلك يبرز من خلال الدور الذي لعبته في جمع كل الأطراف المعنية، الإقليمية والدولية، بهدف الوصول إلى صيغة لتسوية سياسية في سوريا. بيد أن هذا المسار نفسه ينطوي في أحد وجوهه الأخرى، على أن موسكو تريد استخدامه وتوظيفه كـ«مظلة» سياسية ليس إلا، لتحقيق غاياتها ومآربها السياسية، بعد أن تستدرج و«تسوق الجميع»، تحت قيادتها العسكرية والسياسية، نحو الوجهة التي تبتغيها لهذا المسار، والتي تتقاطع إلى حد كبير مع رؤية حليفها الرئيسي في دمشق، إلى جانب حليفتها الأخرى طهران.

يتضح، على سبيل المثال، كيف أن الرئيس السوري يسعى لتوظيف التقدّم الذي تحققه قواته العسكرية على الأرض، بمساعدة الآلة الحربية الروسية المتطورة، كيما يعود إلى تشدّده وتأكيده على ضرورة الانتهاء من محاربة القوى الإرهابية أولاً، (وفي عرف النظام السوري فإن كل من يعارضه في الرأي هو إرهابي أو داعم للإرهاب، وليس من يحمل السلاح فقط)، قبل الحديث عن، أو الشروع في، أية أجندة سياسية للحل!. 

وبصرف النظر عن «العناوين العامة« التي اتفق عليها في فيينا، فمن الواضح للجميع أن ثمة قضايا جوهرية مازالت موضع خلاف، أو على الأقل قيد البحث، سواء ما اتصل منها بدور ومصير الرئيس السوري، أم ما يتصل بتصنيف الجماعات المسلحة، ومن سيدرج منها على قائمة الإرهاب، إلى جانب «داعش والنصرة». لكن الأهم من هذا وذاك، هو لمن ستكون القيادة في هذا المسار ككل؟!. 

والحال، فبعد أن قُزّم واختزل ما يجري في سوريا إلى مجرد سردية «الإرهاب«، التي تحولت بدورها إلى «يافطة« تصلح لتسويغ وتبرير شتى التدخلات بمختلف أصنافها وأشكالها في هذا البلد. وبعد أن باتت أغلب الدول المعنية ترى أن الأولوية يجب أن تعطى لمحاربة ومحاصرة «الإرهاب المنفلت«، الذي يضرب خبط عشواء في المدن العربية والغربية على حدّ سواء. وفي ظل الانسحاب و«الركاكة» الأميركية في التعامل مع الحالة السورية بمختلف جوانبها، فقد أفضى ذلك كله، لأن يُترك لروسيا، حليف النظام الرئيسي، أن تلعب دور «القيادة» في البحث عن حلول عسكرية وسياسية وديبلوماسية لهذه الأزمة، التي بات عنوانها الرئيس «داعش وكيفية مواجهتها«، قافزين بخفة متناهية عن جذر وأصل هذه الأزمة!!. 

وللرئيس السوري أن يضحك في سرّه الآن، فلسان حاله يقول: «ها هم جميعاً يعترفون ويقرّون أخيراً بأولوية محاربة الإرهاب«، فهو كان قد «تنبّأ»، ومنذ الأسابيع الأولى للحراك السوري، عندما لم يكن أحد قد حمل السلاح بعد، وقبل أن تولد أي جماعة مسلحة، وعندما كنّا لا نزال أمام متظاهرين عزّل في مدينة درعا فحسب، بأن ما يواجه نظامه هو «إرهاب منظم«، تقوده جهات داخلية وخارجية في إطار مؤامرة كونية ضده وضد سوريا؟!. 

مثل هذا الاعتراف قد ينطوي، أو من شأنه أن يقود بدوره، إلى الإقرار ضمناً أو علانية، بضرورة التعاون معه في سبيل التخلص من «وحش الإرهاب« قبل أن يفترس الجميع!. وهو ما قد يمنحه سنوات إضافية من المناورة والتضليل، مثلما منحته قبل ذلك أولوية التخلص من «سلاحه الكيماوي«، وخاصة أن ذلك يتمّ في ظل وجود مباشر لحليفيه المخلصين، على الأرض وفي السماء السورية!!.

() كاتب من سوريا