Site icon IMLebanon

غرف الحرب

 

عرف لبنان في حياته كلها، طبيعة البلدان الهادئة، حيث الشعب ينصرف مع السحر، لتلمس دربه إلى الجدّ والكدّ والكدح والعمل. لا نقول هذا من باب اللحاق بالأمم العظيمة، ولا من باب التباهي والتعالي و«المشاوفة»، وإنما من باب الواقعية البسيطة، والتأمّل في أحوال العاصمة وسائر المدن والقرى، حيث كانت المعامل قد نهضت على يد الأجيال القديمة، قبل عصر الطاقة الكهرومائية بدهور طويلة، وحيث الحرف والصناعات والأشغال الحرفية، التي اختصت بها القرى اللبنانية، وتميّزت بها، وحيث الكروم المرسومة في السهول والجبال، بالأيدي و بالسواعد الموشومة.

كانت المعامل في كل ناحية من المدينة، وكانت الكروم، زينة الأرض عندنا، من باب الدار، حتى الآفاق البعيدة، وأما الأسواق فقد كانت معقد آمال أصحاب التجارات، يؤمّها التجار من أقاصي الأرض لتلمس حاجات أهلهم وزبائنهم إلى البضائع اللبنانية، على الجمال والبغال وفي المراكب البحرية.

 

وكانت الموانئ البحرية، كما طرق القوافل البرية إلى العواصم القريبة والبعيدة، تؤمّن التواصل الدائم بين لبنان وسائر الأقاليم. فلا تبعده عنها المسافات الطويلة، ولا الألسن الأعجمية. فقد قرّت في أسواقه الأمم منذ قديم الزمان، وصار موئلا للزائرين والصنّاع والتجار. فازدهرت فيه الزراعات والصناعات والتجارات، وقامت فيه نهضة عظيمة للسياحات المختلفة، فكان إذا ذكر لبنان بين الأمم والشعوب، تعرّفوا إليه من ألوان السياحات المختلفة في الشؤون كافة، من دور العلم إلى دور العبادة، إلى خانات التجارة ومحالها وأسواقها. وقد تعرّفوا إليه أيضا، من ألوان التجارات والزراعات والصناعات المختلفة، التي كانت تفوق الحصر، حتى بات لبنان بلدا أمميا يعجّ بالناس، من كافة الأعراق والأجناس، ومن جميع الهويات قاطبة.

 

كان لبنان يهدأ مع الإقليم، ويشتعل مع الإقليم. وكانت الحروب كلها تستجرّ إليه، حين تعصف العواصف، وحين تحتشد العواصم، وتسير القوافل العسكرية والسفائن الحربية. فما كان لبنان يستطيع النأي بالنفس عنها. فكانت تفكّك عُراه وتهزّ كيانه وتجعله عرضة للتجارب الحربية المشؤومة.

اعتاد اللبنانيون على إقتناء السلاح، وعلى حمل السلاح، لأنهم ظلوا دهرهم مطمع الغزاة، ومطمع القراصنة واللصوص وقطاع الطرق، ولهذا كانوا ينشئون في داراتهم غرف الحرب، حتى لا تكون الحرب، إذا ما وقعت، مفاجئة لهم. فكانت دورهم مشابهة للقلاع وللحصون. وحين تطوّرت العمارة اللبنانية السكنية، في المدينة وفي الجبل، جعلوا غرف الحرب في مكان مخصوص، فكانت مخزن السلاح والذخيرة، وبقربها القبو و الإسطبل لكلب الحراسة ولخيل الإغارة. وأما الجدران والدكك، ففيها رفوف أعتدة السلاح اللازمة، إذا ما قامت الحرب على ساقها.

ورغم تقدّم العصور وتقدّم أنواع الحروب، ورغم ظهور التخصصات الحربية، بأنواع الأسلحة المختلفة، وخصوصا منها الأسلحة الذكية، ورغم التجارب التي أوقعت باللبنانيين، منذ ما بين الحربين، حتى اليوم، لا زال اللبنانيون متمسّكين بعاداتهم القديمة لا يتخلّون عنها. يصنعون غرف الحرب بأيديهم ويموّهون عليها. ثم تفاجئهم حرب البغتة، يقودها الذكاء الصناعي، فينظرون ما بين أيديهم من غرف حرب ومخابئ. وإذا هو كله مكشوف للأقمار الصناعية، وإذا كل سلاحهم حطمة، وإذا كل الأموال التي أنفقت عليه، ذهبت أدراج الريح. وحين تهب العاصفة، تأخذ معها الدارة والمصنع والسوق والكرم والحقل، ثم يجلس أصحابها في العراء على أكوامها، يندمون ولات ساعة مندم.

كانت غرف الحرب في السابق، لحماية الدارة والكرم والمصنع والسوق. أما اليوم، فصارت تجلب النار والدمار والعار والشنار… أما آن لنا أن نتعلّم من كيسنا: أن الحرب صارت على الأقمار الصناعية، وأنها صارت بالذكاء الصناعي. وأن الريبوتات، صارت أعظم من سواعد القبضايات. وأننا لم نعد في «عصر القبضنة». صار الروبوت والمسيّرة والفأرة والعنكوبة، لها الفوز على سواعد القبضايات، لأننا أصبحنا خلف الأمم، ولم نلحق بتقديم ساعتنا العلمية.

غرف الحرب صارت وبالا علينا. يأتي إلينا كل يوم، الشقيق أو الصديق، يكاشفنا بحالنا، يرينا صورتنا من قبل ومن بعد: هذي كروم الماضي. هذي دور ماضينا. هذي مصايفنا. هذي منتجعاتنا. هذي أسواقنا. ثم يقول لنا: إنظروا ماذا فعلتم بأنفسكم. فكم حربا تحتاجون حتى تحفظوا أنفسكم بأنفسكم، ولا تجعلوا بلادكم الجميلة طعمة للنيران الذكية؟

غرف الحرب هي علّتنا. كانت في الماضي من نوع السلاح الأبيض، وأما اليوم، فهي من السلاح الذكي. تغيّر السلاح علينا، وما تغيّرت غرف الحرب عندنا!… ولا تغيّرت عاداتنا الحربية، ولا تغيّر عندنا عصر القبضنة. فظللنا اليوم على ما نشأنا، وظلت عاداتنا الحربية هي هي.