Site icon IMLebanon

لبنان بين سلاح متفلت ودولة معلّقة

 

تعيش الدولة اللبنانية منذ عقود في حالة من التعليق، لا هي تنهض ولا هي تنهار بالكامل. هذا التعليق لا يتعلق فقط بالمؤسسات، بل بالمعنى نفسه: معنى الدولة، ومعنى الانتماء، ومعنى السلاح.

 

من يتأمل في تجارب الشعوب الخارجة من الحروب يجد مسارًا واضحًا: تفكيك ذهنية العنف، ثم إعادة تأسيس الدولة على قاعدة وطنية مشتركة. في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن مجرد نزع السلاح كافيًا، بل جرى عمل عميق على محو ثقافة التفوق والعسكرة من النظام التربوي، من الإعلام ومن الذاكرة الجماعية. في إسبانيا ما بعد فرانكو، اختار المجتمع العبور إلى الديموقراطية عبر تجاهل الماضي العسكري، لكن الدولة بقيت مركزية في القرار. في جنوب أفريقيا، تصالح البلد مع ذاكرته السوداء، لا عبر قمعها، بل عبر المصارحة وبناء عقد وطني جديد.

 

في لبنان، لم يحدث شيء من هذا كلّه. الحرب انتهت دون أن تُحسم، ودون أن تُفتح دفاترها. السلاح لم يُدمَج في الدولة، بل وُضِع على هامشها، وتحول إلى قوة ضاغطة، تمتلك شرعية في نظر جماعة، وترهب سائر الجماعات. لم يُسأل أحد: من يملك القرار السيادي؟ من يقرر السلم والحرب؟ من يُعرّف العدو ومن يحدّد المصير؟

 

النتيجة هي أن الدولة بقيت جسدًا بلا روح، حاضرة في الخطاب، غائبة في الفعل. والسلاح، الذي يفترض أن يكون استثناءً، صار قاعدة. ليس لأنه مشروع، بل لأنه مفروض بالأمر الواقع، ومحاط بخطاب يمجّده ويحميه من أي نقاش حقيقي.

 

ما يجعل هذا الوضع أخطر هو غياب أي مشروع مستقبلي لهذا السلاح. لم يعد مرتبطًا بهدف واضح أو مرحلة انتقالية، بل أصبح قائمًا بذاته، كأن مجرد وجوده هو الغاية. وكلما تراكمت الأزمات – من انهيار اقتصادي إلى عزلة سياسية – كلما ازداد هذا السلاح تشبثًا بموقعه، كأن بقاءه يبرر الدولة لا العكس.

 

في هذا المشهد، يضيع المواطن. لا يعرف إلى من يتوجه حين يُهدد، أو حين يُقصى، أو حين يُظلم. لا يثق بالمؤسسات، لأنها لا تملك قرارها، ولا يثق بالقوة المسلحة، لأنها ليست مُلكًا عامًا. يعيش بين سلطتين: واحدة شرعية عاجزة، وأخرى فعالة خارجة عن القانون.

 

إن أي مجتمع لا يحسم علاقته بالعنف سيظل أسيرًا له. وأي دولة لا تحتكر أدوات القوة، تبقى مجرد هيكل فارغ. لبنان لا يحتاج إلى توافق هش، بل إلى لحظة تأسيس حقيقية: دولة بجيش واحد، بقرار واحد، بمرجعية واحدة. حينها فقط يمكن الحديث عن نهضة، عن إصلاح، عن أمل. قبل ذلك، كل ما يُقال ليس إلا إدارة لأزمة متكررة، أو تأجيل لانفجار آتٍ.