زيارة وزير خارجية مادورو تختصر المسافة بين كراكاس وحارة حريك… وأسئلة عن مصلحة لبنان الدولة
ما إمكانية أن تتكرّر تجربة سوريا في فنزويلا واندلاع حرب أهلية
خرج الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصر الله في السادس من شباط الماضي لينفي كلام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حول أن لدى «حزب الله» خلايا ناشطة في فنزويلا. يومها سعى نصر الله في مطالعته إلى القول بإن «صِيت القوّة جيّد، لكن لا أساس من الصحة بأن هناك خلايا لـ «حزب الله» في فنزويلا. نحن لم نرسل أحداً، وهم لم يطلبوا أحداً. أين نحن وأين فنزويلا؟». بالأمس، جاء وزير خارجية نيكولاس مادورو إلى لبنان ليلتقي نصر الله. لم تعد المسافة بين كراكاس وحارة حريك بعيدة.
كثير من المراقبين توقفوا آنذاك عند الجهد الذي حاول نصر الله أن يبذله لينفي أي تواجد لـ «الحزب» في فنزويلا، متحدثاً عن مبالغة أميركا، حيث تابع: «بعد قليل ستقدّمنا كأننا نحن قوة عالمية، ودائماً عندما تتكلم، تُشير إلى روسيا والصين وإيران و«حزب الله»، نحن لسنا هكذا، لا في أميركا اللاتينية، ولا في فنزويلا». قرأ هؤلاء المراقبون موقف أمين عام «حزب الله» كمن يريد أن ينحني أمام العاصفة التي تضرب الحليف نيكولاس مادورو وما يؤمّنه من فضاء رحب لـ «محور الممانعة» يتحرّكون فيه ما وراء البحار. فالتحرّك الذي تقوده واشنطن أدرجه بومبيو في إطار «المسؤولية لإزاحة الخطر الإيراني من أجل أميركا»، وهو أمر يتعلق بحماية أمنها القومي.
فطهران عبر أذرعها الخارجية عملت منذ زمن على اختراق دول أميركا اللاتينية بهدف تأمين حديقة خلفية في القارة الأميركية. وهي نجحت بذلك منذ سنين عدة بإقرار أميركي، حيث ارتبط اسم «المثلث الحدودي» في أميركا الجنوبية الذي يجمع البرازيل والأرجنتين والباراغواي بشبكات «حزب الله» لتهريب المخدرات وتبييض الأموال. وكذلك ذاع صيت إيران وأذرعها الخارجية الأقوى في «جزيرة مارغريتا» التابعة لفنزويلا في البحر الكاريبي، والتي أضحت «محطة وصل» بين أميركا اللاتينية وبلاد فارس لاحتضانها مصارف وقنوات لغسل الأموال لتمويل أنشطتها وأنشطة التنظيمات المرتبطة بها. هذا عدا عن استثمار مناجم ذهب كمصادر تمويل.
ولكن هل خرقت زيارة وزير الخارجية الفنزويلي خورخي أرياسا إلى بيروت «درب التقية» الذي سلكه «حزب الله»، ولا سيما الإعلان المتعمّد عن لقاء له مع نصر الله؟ ربما تتبلور الصورة مع كلام أرياسا في سوريا خلال المؤتمر الصحافي مع نظيره السوري، الذي اعتبر «أن تجربة سوريا في الحرب على الإرهاب ستفيد فنزويلا في مواجهة المؤامرة الأميركية التي تتعرّض لها». وتجربة سوريا لم تصنعها قدرات جيش النظام بل المنظومة العسكرية والأمنية التي استعان بها لسحق شعبه الذي ثار عليه والتي شكلت إيران وميليشياتها عمادها الأساسي، في الحرب غير الكلاسيكية، فيما تولت روسيا أمر القوة الجوية التدميرية.
إلى الإعلان عن وجود قوات روسية استشارية، وقبلها نشر مقاتلات روسية، فإن التقارير الأميركية تتحدث عن معسكرات للحزب في فنزويلا تُدرّب عناصر من الجيش الفنزويلي على حرب العصابات. وهي حربٌ يُلوّح بها مادورو الذي دعا الشعوب العربية والإسلامية لأن تهبّ دفاعاً عن بلاده، مستنجداً بالنموذج الفيتنامي الذي بدا واثقاً أن أماكن عدّة في أنحاء العالم ستشهده في مواجهة «العدوان الأميركي» على بلادهم.
يسعى الحلف الممتد من كراكاس إلى موسكو وطهران وسوريا وحارة حريك إلى الإيحاء بإمكان أن تتكرّر تجربة سوريا في فنزويلا، والتلويح تالياً بإمكان حصول حرب أهلية على غرار ما حصل في البلدان التي اخترقتها إيران وأذرعها. في رأي مراقبين أميركيين، أن احتمال لجوء مادورو إلى استثارة الشارع بغية اندلاع حرب أهلية يبقى احتمالاً وارداً، لكن إدارة ترامب التي تحظى بغطاء سياسي دولي، وبدعم وتعاون من دول الجوار في أميركا الجنوبية، لن تقف موقف المتفرّج بل ستعمل على اتخاذ تدابير أكثر قسوة لخنق النظام، وشلّه كلياً على غرار منع حركة الطيران وغيرها من الإجراءات التي ستؤول إلى انهياره حتماً، وسيكون لدول الجوار الدور الرئيسي في حال اقتضى الأمر أي خطوات خارج الوسائل السلمية.
ليس من الصعب على المتابعين المطلعين على أجواء الإدارة الأميركية فهم مغزى الموقف الروسي حيال الحليف مادورو. فلاديمير بوتين يعتبر أن ترامب يمارس ضغوطاً على روسيا في حديقتها الخلفية – أوكرانيا، وبالتالي، فإن الدفع في اتجاه مواجهة في فنزويلا – كحديقة خلفية للولايات المتحدة، من شأنه أن يفيد موسكو كورقة إضافية تساوم عليها لتحسين موقعها وشروطها. وليس من الصعب بمكان فهم مرامي زيارة وزير الخارجية الفنزويلي إلى لبنان والرسائل المتعددة التي تريد أن ترسلها إيران من ورائها، والتي قد لا تكون موسكو بعيدة عنها، ما دامت ترى أن رئيس الجمهورية ذهب إلى ديارها مؤخراً مستنجداً بالقيصر من أجل حماية الأقليات المسيحية في لبنان والشرق وموقعاً اعلاناً مشتركاً يتخطى مسائل العلاقات الثنائية إلى مسائل إقليمية ومفاهيم مشتركة من قضايا دولية، وما دامت تطمح إلى مد نفوذها إلى دول جديدة في المنطقة، كانت شبه مستحيلة عليها حتى الأمس القريب.
على أن السؤال الذي يتزايد طرحه يوماً بعد يوم يكمن في ماهية المصلحة اللبنانية في الذهاب إلى خطوات استفزازية لأميركا التي تضع لبنان تحت المجهر؟ وأي حكمة في إرسال رسائل سلبية إلى الأوروبيين الذين يؤكدون على الدوام على أهمية تجنّب لبنان الانزلاقات في المحاور وإلى التزام سياسة النأي بالنفس عن الصراعات، ولا سيما أن الأوروبيين الذين محضوا، هم الآخرون، دعمهم لزعيم المعارضة خوان غوايدو يقفون بقوة وراء لبنان لمده بأوكسجين الصمود الاقتصادي عبر مؤتمر «سيدر»؟ وأي مصلحة تدفع رئيس البلاد إلى جر لبنان إلى الدخول طرفاً في صراع من شأنه أن يؤثر على الجالية اللبنانية في فنزويلا في ظل الانقسام الحاد والخطر بين الحكم والمعارضة؟
ألاّ يُقدّم استقبال عون ووزير الخارجية جبران باسيل لأرياسا، وعدم استقبال رئيس الحكومة سعد الحريري له صورة عن الدولة المفككة في لبنان؟ لم يعد الحديث اليوم يدور حول دولة موازية لـ«حزب الله» في لبنان، بل عن دولتين داخل الدول الشرعية: واحدة يُعبر عنها عون وفريقه السياسي وحلفاؤه وامداداتهم الإقليمية والدولية ويغلب على رئيسها مصالح سياسية لا يمكن إلا أن تقرا في عداد الحسابات الرئاسية، وثانية يُعبّر عنها الحريري وحلفاؤه وبعدهم الاقليمي والدولي يسعى فيها إلى خلق نوع من التوازن، عل ذلك يسهم في استمرار مظلة الآمان على لبنان؟