Site icon IMLebanon

دولاب الحظ فرصة وخطران

 

ليس قدر لبنان أن يكون ضحية. لكن السياسات والمصالح الإقليمية والدولية الواسعة والمصالح الفئوية الضيقة لأمراء طوائفه المخطئين في قراءة الأحداث وخفايا الدول جعلته منذ الستينات ضحية. لا فقط ضحية الحروب فيه وعليه وفي الشرق الأوسط وعليه، بل أيضًا ضحية التسويات. وكلما سمع من عواصم القرار وعودًا بألا تأتي التسويات الإقليمية والدولية على حسابه، كان عليه أن يكتشف منذ اللعبة التي أدارها وزير الخارجية الأميركي الدكتور هنري كيسينجر أن الواقع أحياناً هو تعطيل التسوية على حساب الوطن الصغير. والوقائع شاهد. كيسينجر يروي في مذكراته أن الرئيس سليمان فرنجية سأله خلال الاجتماع به في مطار رياق: “كيف يمكن الولايات المتحدة أن تحد من النفوذ السوفياتي وتريح لبنان من مشكلته الفلسطينية؟”. لكن الوزير الأميركي الذي “علّمه التاريخ عدم الثقة بالدول الصغيرة” كتب يقول: “لم يطاوعني قلبي للإقرار بأنه من غير المرجح أن ينجو لبنان من ضيوفه المفترسين”. وفي مفاوضات كامب ديفيد رأى الرئيس جيمي كارتر “أن لبنان وعاء يغلي ويجب إبقاء الغطاء عليه لئلا يفسد الطبق الرئيسي وهو السلام الشامل”. أما وزير الخارجية جورج شولتز، فإنه على العكس يسجل في مذكراته رفضه عرض مسؤولين وغير مسؤولين بينهم كيسينجر وقولهم: “لا تدعوا مشاكل لبنان تطغى على ما عداها بل قدموا مشروعاً للشرق الأوسط”. إذ رد بالقول: “هذه فكرة سيئة. أزمة لبنان شيء، وإيجاد تسوية في الشرق الأوسط شيء آخر، ولن أساوم بواحد من أجل الآخر”. لكن اللعبة كانت ضده.

 

وفي المفاوضات بين الدول العربية وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد أيام الرئيس جورج بوش الأب، فإن الرئيس حافظ الأسد الذي كان يخاف دائمًا من لعب أعدائه في “ساحة” لبنان، كما قال نائبه عبد الحليم خدام في مذكراته، قرر، لا فقط الإمساك بلبنان بل أيضًا منع لبنان من التوصل إلى تسوية قبل سوريا. وعنوان اللعبة كان “وحدة المسار والمصير، وتلازم المسارين وتزامنهما”. وفي مفاوضات شيبرز تاون بين الشرع وإيهود باراك يذكر الرئيس بيل كلينتون أن وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت قالت لباراك: “السوريون أظهروا مرونة تجاه مطالبكم لكنكم لم تقدموا شيئًا، فماذا تريد؟”. رد بالقول: “أريد معاودة المفاوضات مع لبنان”. وكان رأي الشرع أن باراك “ليس جدياً”.

 

وإذا كانت السياسات العربية قد ربطت الحل في لبنان بالتسوية الشاملة للصراع العربي – الإسرائيلي، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تربط الوضع في لبنان من خلال “حزب الله” المسلح، لا فقط بتحرير فلسطين بل أيضاً بظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته العالمية. ولا شيء يوحي أن طهران تراجعت عن مشروعها بعد تعرضها لضربة أميركية وإسرائيلية، ولا عن ابتكار وسائل وطرق لمد “حزب الله” بالمال والسلاح، على الرغم من مفاعيل حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد والضربات الشديدة التي أصابت “المقاومة الإسلامية”.

 

لكن التحولات المتسارعة أقنعت اللبنانيين بأن دولاب الحظ دار أخيرًا لمصلحة لبنان بعد عقود من سوء الحظ وسوء السياسات والأحمال الثقيلة الإقليمية والدولية المعلقة على عنق الوطن الصغير. فأمامنا فرصة ذهبية مفتوحة من النوع الذي “يأتي مرة في العمر” حسب الرئيس دونالد ترامب. والرهان عليها كبير لسحب السلاح خارج الشرعية وإجراء الإصلاحات الحيوية في لبنان بعد خروجه من الأسر الإيراني والسوري. والانطباع السائد هو أن الوعاء اللبناني الذي كان يغلي وسط إصرار كارتر على ترك الغطاء فوقه لئلا يفسد الطبق الرئيسي في المنطقة، صار اليوم مكشوف الغطاء من ضمن متغيرات هائلة في سوريا وسواها فتحت الطريق إلى انفتاح عربي وغربي على لبنان وسوريا. غير أن الفرصة مهددة بخطرين: خطر الاعتراض عليها، وخطر الاستهانة بها. والبوادر ظاهرة. وما يطمئن هو أن البلد صار جزءاً من قافلة الحلول بعدما كان في قافلة الأزمات.

 

ولا مهرب مما سماه هيغل “مكر التاريخ”.