فكرة أنّ لا جديد في السياسة اللبنانية منذ حزيران الماضي قد تبدو للوهلة الأولى مسرفة في المبالغة، وهي لا شك تحتوي على نسبة لا بأس فيها من المبالغة. لكن مثل هذه الفكرة ستدفعنا الى طرح السؤال المقابل: ما الجديد في السياسة الداخلية منذ الانتخابات وما تلاها من إعادة انتخاب الرئيس نبيه بري لرئاسة مجلس النواب وإعادة تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة؟ مروحة مفاوضات واتصالات وعدد معتبر من اللقاءات تُصنَّف في المأثور اللبناني تحت خانة “حلحلة العقد وتدوير الزوايا”.
تذكير بين الفينة والأخرى بالعواقب الاقتصادية إذا ما تأخّرت عملية التشكيل أكثر فأكثر، وهي للآن قد حصدت خمسة أشهر بعد استحقاق انتخابي يُفترض فيه أن يكون عامل تسهيل لتشكيل الحكومة بعده، وليس العكس، فإذا تعذّر الأخذ بمعطيات الفرز الانتخابي يُعاد القديم على قدمه، وتتشكّل حكومة كالتي كانت قبل الاستحقاق، والتي تُصرّف الاعمال الى الآن. ومع هذا، حتى اللحظة، لم تتشكّل حكومة.
ثمة في الأسابيع الأخيرة مساعٍ حثيثة لالتقاط حاجة ما الى حسم الامر، وتشكيلها، لكن حتى اللحظة لا نزال معها مع موعد يتأجّل، وليس صحيحاً ان الناس هي فعلاً على أحرّ من جمر، بقدر ما ان الرأي العام يتراوح بين قلّة المبالاة حيال الامر، او الضجر من استعادة الأخبار ذاتها، او تحرّكه الهواجس التشاؤمية البديهية، بالنسبة الى بلد يحتاج فيه كل استحقاق دستوري الى مدة اضافية كي يمرّر فيه، بشقّ النفس، خمس سنوات اضافية بالنسبة الى الانتخابات النيابية، وخمسة اشهر اضافية حتى الآن لتشكيل حكومة.
طبعاً، المحاولة، في المقابل، للافتعال الدرامي، وحضّ الناس على الخروج من هذا الموقف نصف اللامبالي نصف المترقب، هو افتعال سأمت منه الناس. سأمها هذا يعكس حاجتها الى من يصدقها القول والفعل، مثلما يعكس في الوقت نفسه الكبوة العامة، إلا طبعاً بالنسبة لهذا القسم من الناس الذي يتماهى تماماً مع الفريق السياسي الذي يحازبه، ويتابع مفاوضات التحاصص كما لو كان يتابع دوري في كرة القدم، بنفس التشوق والحماس، لكن أكثر الناس ليسوا كذلك. ليسوا مع هذا “أكثرية صامتة”، هذا المصطلح الذي يعطّل كل استيعاب لعلاقة الناس، العدد الأكبر منهم، بتطورات السياسة. هم، شاركوا في انتخابات نيابية قبل خمسة اشهر، ولم يتبيّن لهم حتى الآن، ما هي نتيجة إدلائهم بأصواتهم، لا سلباً ولا إيجاباً، وما الذي تغيّر قبل الانتخابات وبعدها.
الجديد كان على الأغلب طيلة هذه الفترة، منذ الانتخابات، في “المؤثّرات الإقليمية”. مباشرة بعد لحظة الانتخابات، كانت لحظة الشعور بأن المعطيات الميدانية السورية، من بعد الغوطة ودرعا، ومع بدء ما اعتُبر عدّاً عكسياً لمعركة ادلب، هي معطيات توظّف مباشرة في الداخل اللبناني. اما في الوقت الحالي، فإن إعادة خلط الاوراق، إقليمياً، لم يتّضح مآلها بعد، وكذلك العقوبات الاميركية على “حزب الله”، تتوسّع، إنما لم يتّضح مآلها بعد، والملف النووي الايراني هو الآخر، ينتظر الى فترة ما بعد الانتخابات النصفية الاميركية. لحظة إعادة خلط الاوراق إقليمياً، ترافقت مع زخم جديد لعملية التشكيل داخلياً، مع اتجاه لإقناع الناس بأن معظم المشهد الحكومي بات مرتسماً، ولم يبقَ إلا بعض “الروتوش” حتى تظهر الصورة بالكامل، وقد يصدق هذا التفاؤل، وهذا راجح، او نعود الى التأزّم، وهذا أقلّ ترجيحاً، لكنه غير مستبعد، لكن المشكلة تبقى، ان القليل من السياسة في الأشهر الماضية، لن يتبدّل بوفرة منها حتى لو تشكّلت الحكومة. ما زال البلد كله، من القيادات فيه حتى كل مواطن، يتتبّع الخبر الاقليمي أولاً، ثم الداخلي، ويبدو أن هذه الحال مزمنة أكثر بكثير مما كان ممكناً توقّعه قبل سنوات. على الأقل، عشنا سابقاً فترات كان يحل المحلّي في الصدارة حيناً، والإقليمي أو الدولي حيناً آخر. منذ مدة، وأكثر فأكثر بعد الانتخابات، الشأن المحلي يكاد ان يُختصر بمتابعة الشأن الاقليمي، ومحاولة التقاط مؤثرات انطلاقاً منه، مؤثرات لا تلبث ان تزغل او تناقضها مؤثرات اخرى.
ما الذي بمقدوره اعادة انعاش الاعتبار المحلي؟ التوافق مجدداً، على تشكيل الحكومة، وبعدها مسألة البيان الوزاري، ثم بداية قياس مقدار نجاعة العمل الحكومي في المرحلة المقبلة؟ ام على العكس من ذلك، اعادة ظهور التناقضات، وخصوصاً عناوين الافتراق الاساسية؟ حتى في هاتين الحالتين، سيبقى الشأن الاقليمي له الاولوية، الى ان يتحول الشأن اللبناني نفسه الى “شأن اقليمي”، وعلى الرغم من اتّساع رقعة العقوبات الاميركية على “حزب الله”، الا ان هذا الامر لا يُستقرأ بهذه العقوبات وحدها.
حجة التوافق الضمنية الاساسية اليوم هي: لا داعي للخشونة في التعاطي، ما دام المطلوب ان نتابع سوية، مجريات المسارات الاقليمية المتلاطمة. على كل مفارقات ذلك، لكن الامر لا يخلو من وجاهة ما.