بين عبقرية «اللغة» ومأساة السياسة
مع الأخذ بعين الاعتبار، الاشادات الأميرية، وإن شئت «المكيافيلية» التي «بوتوت» بها، عبر العالم الافتراضي، وليد جنبلاط، بصفته الوسطية، وليس الاشتراكية، وبصفته «الوطنية»، وليس كرئيس لحزب سياسي (هو الحزب التقدمي الاشتراكي)، ذات اليمين، وذات الشمال، تارة يعترض على ما أعلنه قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمّد علي جعفري، من ان سلاح حزب الله غير قابل للتفاوض، وتارة على ما نسبته إليه من أقوال صحيفة «نيويورك تايمز» لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كالقول بأن الرئيس سعد الحريري، ليس بإمكانه الاستمرار بتغطية سلاح حزب الله في الحكومة اللبنانية، حيث يهيمن الحزب على القرار، ويخضع بدوره للنفوذ أو السيطرة الإيرانية.. مع الأخذ بعين الاعتبار الرافضين أو الاعتراضيين، ومع تبينُّ خطوط الأزمة «الباردة» الحالية، ومصادر التوتر الخاصة بها، والتي هي في أصلها وفصلها خارجية، إقليمية، تتصل بالصراعات الحامية الوطيس، والتي تخبو نارها أو تضطرم مع سير العمليات الحربية، وتبدُّل معطيات الحرب والسلام في بلاد الرافدين، وبلاد الشام «السورية»، لا سيما البادية، وخطوط التماس عند الضفاف الشرقية للفرات، بين ملتقى، مصالح دولية وإقليمية يقدم فيها الإيراني نفسه إلى جانب التركي والروسي، بأنهما لاعبان كبيران، بمواجهة المحور الأميركي – العربي، وتحالفاته في اتجاهات متعددة.
في الوقت، الذي كانت فيه قمّة سوتشي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (قائد محور المقاومة الدولي) والرئيس الإيراني الشيخ المعمم حسن روحاني (المعني السياسي الرسمي بمحور المقاومة اقليمياً) والشريك العثماني البرغماتي، الذي يلعب على حبال المصالح بين الناتو و«النمر الروسي» الفتي رجب طيب أردوغان، المنفتح على المحور العربي بزعامة المملكة العربية السعودية، والذي ينسق على أحسن أحوال التنسيق مع الإدارة الروسية على حساب الاختلاف مع الإدارة الترامبية في البيت الأبيض، والتلاقي في احيان كثيرة مع اللاعب العربي، تنعقد بحثاً عن استئناف مؤتمر التسوية بين النظام السوري ممثلاً بالرئيس بشار الأسد والمعارضة المعتدلة، ممثلة بصورة رئيسية بالمنصة المعروفة بمنصة الرياض، إضافة إلى منصة القاهرة، ومن ثم المعارضة التي تدور في الفلك التركي، كانت الحرب الميدانية تتخذ اشكالاً أخرى، لا توحي بأن الانتصار تحقق أو أن الحرب وضعت اوزارها.
على هذا النحو، من استمرار ما يوصف «بالعاصفة الاقليمية»، تتماهى المواقف اللبنانية مع تطورات المواقف الإقليمية والدولية، فإذا ضباب كثيف يلف مصير التسوية الداخلية، وإذا المساعي، تدور، حتى اللحظة، داخل متاهة «النأي بالنفس»، التي يمكن ان تتحوّل إلى مادة سجالية، لغوية، معنوية، دلالية، تحتاج إلى علوم «السيمولوجيا» و«السيمونيتك» والفيلولوجيا، وابن منظور، والخليل، وابن جنّي، والحلّي، وابن دؤاد، وأبو الأسود الدؤلي، والامام علي، وغيرهم من اساطين اللغة ونحوييها، وعلمائها من دون ان يتمكن «القوم الصالحون» أو الضالون، من إيجاد دلالات، ومعانٍ إجرائية تناسب الوضع اللبناني.
وقبل استقراء الموقف في الأيام المقبلة، بعد عودة الرئيس ميشال عون من زيارته إلى إيطاليا، من المفيد التوقف عند بعض المعاني المعجمية للفظ «النأي»: وهو البُعد. نأى ينأى، بَعُدَ، بوزن نعى ينعى. ونَأْوتُ: بَعدْتُ والنأي: المفارقة.. وتناءلوا: تباعدوا، والمنتأى: الموضع البعيد. وقيل: نأى بجانبه أي تباعد عن القبول.. ويقال: نأيت الدمع عن خدّي بأصبعي نأياً.. والنؤي: الحاجز حول الخيمة، وفي الصحاح: النؤي حفرة حول الخباء لئلا يدخله المطر.
لا حاجة للمزيد وليتفق القوم على المعنى: 1- هل تعتمد النأي: بمعنى البعد، وهنا الانقطاع الجغرافي، خلافا للقرب، أي فقدان التواصل.
2 – أم النأي: بمعنى المفارقة: افترق، أي انقطع، وعكس اقترب.. وهنا ثمة بُعد جغرافي أيضاً، المنتأى هو الموضع البعيد.
3 – أم النأي بالجانب: أي التباعد عن القبول.
4 – أم النأي بمعنى دفع الخطر، تدفع الدمع عن العين.
5 – أم بمعنى النؤى: الحاجز حول الخيمة، أو حفرة حول الخباء لئلا يدخله المطر..
في وضعية لبنان، وفي عالم متكوّن من عضوية اتصالية محكمة وقوية وحيوية، يصير من الصعب اعتماد أي معنى من الافتراق أي القطيعة، أو البعد الجغرافي، فهذا استحالة.
يبقى من الممكن اعتماد معني النأي بمعنى النؤي أي إقامة حواجز تمنع تسرّب المخاطر الإقليمية أو اللهب الإقليمي إلى لبنان.. حزب الله رأى المنع بالاشتراك في معركة مواجهة الإرهاب، سواء في سوريا أو العراق أو سواها، مع ابتعاد جغرافي وميداني عن اليمن (تأكيدات أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله قبل اسبوع)..
تيّار المستقبل وعلى رأسه الرئيس سعد الحريري اعتبر دفع الخطر بالاستقرار، أي برئاسة الحكومة تفصل ما هو سياسي داخلي (يمكن التفاهم حوله) عن ما هو سياسي إقليمي خلافي (يصعب التفاهم حول).
الآن، ضغوطات الداخل والخارج تقتضي تغيير طبيعة النموذج الذي اعتمد قبل سنة ونيّف في «التعبير عن النأي» بمعنى إبعاد المخاطر عن لبنان.
السؤال: إلى أي حدّ يمكن الرئيس، ميشال عون الذي يبدأ اليوم مشاورات «النأي» بكافة أبعاده، بعدما أصبح «مؤسسة لبنانية» سياسية، رسمية وربما دستورية، ان يوفّق بإيجاد معنى للنأي أو النؤي يتفق حوله اللبنانيون، بعيداً عن متاهة نسف الاستقرار؟!
