تصريحات عديدة ومواقف كثيرة أطلقها المرشح ثم الرئيس دونالد ترامب حول عزمه على إيجاد حلٍّ للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي وثقته باستطاعته عقد «صفقة سلام» في الشرق الأوسط سمّاها «الصفقة النهائية»، معتبراً أنه سيتمكن من حَمْل الفرقاء على التوافق على حلٍّ نهائي لهذه القضية.
ممّا لا شك فيه أنّ ترامب هو رجل صفقات بامتياز وله كتاب شهير عنوانه «فنّ عقد الصفقات»، كما أنّ مواهبه في عقد الصفقات التجارية والمالية والعقارية قد أكسبته بلايين الدولارات، ولكنّ خبرته في «فنّ السياسة» محدودة جداً.
لقد أعلن ترامب منذ البداية أنّ أولى أولوياته كرئيس للولايات المتحدة هي محاربة الإرهاب وكبح جماح التمدد الإيراني في الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق أوجد رابطاً بين إعادة إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط وخلق تحالف عربي سنّي غير مُعادٍ لإسرائيل يضع حداً للإرهاب «الإسلامي الراديكالي» كما يسمّيه ويكون سدّاً منيعاً في وجه التمدّد الإيراني في المنطقة، ولذلك فإنّ أوّل زيارة له خارج الولايات المتحدة منذ تسلمه الرئاسة كانت الى المملكة العربية السعودية وإسرائيل والأراضي الفلسطينية لوضع حجر الأساس لهذا التحالف ولإعطاء إشارة الإنطلاق لمخططه هذا.
هنالك مؤشراتٌ إضافية عديدة تدلّ على اهتمام ترامب الجدي بهذه القضية، فهو منذ بداية عهده عيّن السيد جايسون روزنبلات مندوباً له لدى الفلسطينيين والإسرائيليين، كما أنه كلّف صهره وكبيرَ مستشاريه جاريد كوشنير أن يكون المشرفَ المباشر على عملية السلام في الشرق الأوسط.
ومن جهة ثانية، لم يتأخّر في استقبال بنيامين نتنياهو والرئيس محمود عباس والرئيس عبد الفتاح السيسي والملك الأردني في البيت الأبيض لاعتباره إياهم معنيّين بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع، وحضّ كلّاً من نتنياهو وعباس على العودة الى طاولة المفاوضات مؤكّداً لهما دعمه المطلق لأيّ اتفاق يتوصّلان اليه.
تجدر الإشارة الى أنّ أكثر ما يحفّز ترامب على سلوك هذا الطريق الشاق هو رغبته في تحقيق نجاح تاريخي يؤمّن له مكاناً مميَّزاً بين كبار الرؤساء الأميركيين بالإضافة إلى أنه يبذل قصارى جهده لاتخاذ مواقف وقرارات مخالفة لتلك المتّخذة من سلفه الرئيس باراك أوباما في معظم الأمور.
ترامب، من جهة أولى، لم يكن معروفاً في السابق بتأييده القوي لإسرائيل، بل إنّ بعض القادة اليهود الاميركيين اتهمه أثناء حملته الانتخابية بعدائه للسامية ما اضطره الى التوضيح بفخر في خطابه أمام منظمة الأيباك الداعمة لإسرائيل بأنّ ابنته إيفانكا متزوِّجة من يهودي واعتنقت الديانة اليهودية، كما أنه من جهة ثانية لم يكن يوماً من المؤيّدين لحقوق الشعب الفلسطيني.
ترامب، بلا شك، جدّي في مساعيه هذه وإن كانت دوافعه لا تنطلق من رؤيا سياسية ثابتة تجاه المنطقة ومستقبلها، وهو مصمِّم على بذل كل الجهود في سبيل عقد الصفقة التاريخية التي يحلم بها، ولكن هل الجدّية والتصميم وحدهما يكفلان النتيجة المرجوَّة؟
فهذه المساعي دونها عقبات كثيرة نذكر في ما يلي أهمها:
– ترامب يقتصر في مساعيه على إعادة إحياء مفاوضات ثنائية بين الفريقين من دون أن يقدّم أفكاراً جديدة عمَلية من شأنها حلحلة بعض العقد في المواقف الإسرائيلية المتصلبة التي لا تقيم قائمة للحقوق الفلسطينية المشروعة، كما أنه لم يحدّد أيّ آلية لإحياء المفاوضات.
– الدول العربية المعنيّة مباشرة بالقضية الفلسطينية تعاني من مشكلات داخلية وأزمات كبرى أخرجت هذه القضية من سلّم أولويّات تلك الدول التي أصبحت منشغلة بحلّ قضاياها الأساسية قبل التفكير في معالجة قضايا الآخرين، هذا بالإضافة الى الإنقسام العميق داخل الشعب الفلسطيني.
– بديهي أنّ أيّ حلٍّ لن يبصر النور إذا لم تنتج عنه إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ومواقف نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته معروفة لجهة رفضهم حل الدولتين، مع العلم أنّ ترامب اكتفى بالتوضيح أنه يدعم أيّ اتفاق يتوصّل اليه الفريقان من دون التشديد على ضرورة إعطاء الفلسطينيين حقّهم في إقامة دولتهم.
– يُضاف الى ذلك أنّ «التحالف السنّي» الذي يسعى ترامب الى إقامته بدأ يتصدّع، إذ برزت خلافاتٌ بين قطر والسعودية وهما دولتان محوَريّتان في هذا التحالف، كما أنّ المشرف الأميركي على عملية التفاوض جاريد كوشنير يواجه الآن مشكلات قانونية مع مكتب التحقيقات الفدرالي بسبب لقاءاتٍ عقدها مع السفير الروسي في واشنطن وحاول أثناءها إقامة قناة اتصال سرّية مع الكرملين قبل أن يتسلّم أيّ مهمات رسمية، ومع أنّ ذلك لن يخسّره وظيفته على ما يبدو إلّا أنه سيشغله كثيراً عن مهمته الأساسية في إدارة أيّ عملية تفاوُض محتمَلة.
أخيرا وليس آخراً، إنّ رغبة ترامب في حلّ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي لا تتعدى كونها، أقله في الوقت الحاضر، تصريحات وتمنّيات ووعوداً عامة لا تستند الى خطة واضحة أو رؤيا معيّنة، كما أنها لا تلحظ أيَّ دور للدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن ولا تأخذ بالإعتبار أيّ دور سلبي يمكن أن تلعبه إيران في ظلّ التضييق الذي تمارسه إدارة ترامب عليها، لذلك يصعب عقد الكثير من الآمال على نتائج إيجابية للمبادرة الأميركية، إلّا أنّ ترامب قد تمكّن من تحقيق بعض الوعود التي سبق وقطعها في حملته الإنتخابية والتي كانت تبدو في البداية صعبة المنال مثل انسحابه من اتفاقية باريس المناخية، وذلك على رغم الضغوط القوية التي مورست عليه لعدم إخراج الولايات المتحدة من هذه الإتفاقية التي تضم 195 دولة، أو إلغاء قانون الضمان الصحّي الذي سبق وأقرّه أوباما. فهل سينجح ترامب حيث فشل جميع أسلافه منذ أكثر من خمسين عاماً؟ سؤال لن يلقى إجابة عنه قبل بضع سنوات.
