مَن مِن اللبنانيين ليست له “ذكريات” مع زياد الرحباني؟
أبناء جيله عايشوا معه مسرحية “نزل السرور” التي تنبأ فيها بانفجار الحرب اللبنانية عام 1975. ثم تابعوا معه استمرار الحرب وتوسعها، فكانت مسرحية “فيلم أميركي طويل”. ثم مسرحية “شي فاشل” التي تجسِّد مراحل وعقبات إنتاج المسرحيات في لبنان.
جيله، والأجيال التي تلت، واكب زياد الرحباني في برامجه الإذاعية ولا سيما منها “العقل زينة”.
كانت “كاسيتات” زياد، (وكنا في زمن “الكاسيتات”)، في كل بيت وفي كل سيارة، وكانت إحدى الإذاعات تعتمد على بث مسرحياته ومقابلاته للترويج لمضاعفة مستمعيها، بالإضافة إلى كونها كانت تلتقي معه التزامًا وعقيدةً وخطًا حزبيًا “أمميًا”.
زياد الرحباني لم يكن مجرد موسيقي أو مسرحي أو مؤلف فني بل كان سياسيًا بامتياز وعقائديًا بامتياز.
يناقش في فكر لينين كأنه أبرز وأبرع “المؤدلَجين” اليساريين.
يصعب أن تتجمَّع هذه الميزات في شخصٍ واحد، لكنها تجمَّعت في زياد، كان فنانًا حتى النخاع، وحزبيًا عقائديًا حتى النخاع.
والظاهرة الثانية في زياد الرحباني أن كلَّ أعماله لاقت رواجًا، بمعنى أنه ليس عنده لحنٌ أو أغنية أو مسرحية أو برنامج إذاعي أو مقابلة إذاعية أو تلفزيونية لم يكن موفقًا فيها.
وهو من القلائل الذين لم يبدِّلوا قناعاتهم السياسية، وكان شرسًا في الدفاع عن هذه القناعات، وغالبًا ما كلفته هذه القناعات في السياسة.
يُروى أن والدته السيدة فيروز كانت في ضيافة زوجة الرئيس حافظ الأسد، أنيسة، إلى الغداء، وكان الرئيس الأسد معجبًا بصوت فيروز، وكانت “إذاعةدمشق” تبث كل صباح، ولمدة ساعة أغاني لفيروز، وأثناء الغداء انضم الأسد إلى المائدة، في الحديث أسرَّت فيروز إليه أن ابنها لديه مسرحيات ساخرة لا يوفِّر فيها أحدًا، (وكانت تقصد أنه كان ينتقد القوات السورية في بيروت)، أدرك الأسد رسالة فيروز وأعطى التعليمات بعدم المس بزياد مهما انتقد.
الإشكالية الفنية بين عاصي ومنصور وبين زياد، هي في النظرة إلى لبنان، “لكلّ لبنانه”، لبنان عاصي ومنصور “جبال الصوان” و”أيام فخر الدين”، ولبنان زياد “بالنسبة لبكرا شو؟”، لم يكن مقتنعًا بـ “لبنان” عاصي ومنصور، ولعل أعمق ما جسّد عدم الاقتناع هو الحوار الذي دار في مسرحية “شي فاشل” عن “الشروال والجرَّة والدلعونا”، كان هذا الحوار تصويبًا مباشرًا على لبنان الذي حاول الرحبانيان تجسيده والذي كان أولى ضحايا الحرب.
كان لكلّ سرديته، عاصي ومنصور تمسكا بلبنانهما حتى الرمق الأخير، وكذلك فعل زياد، وللمفارقة، وعلى رغم التناقض الحاد، لم ينقسم اللبنانيون بين “اللبنانَيْن” بل اعطوا لكلِّ “لبنان” حقَّه، وجدا في “لبنان” عاصي ومنصور النوستالجيا، وفي “لبنان” زياد ما لا يجب أن يكون، تجميع الانتقادات التي وجهها، يكفي لإصلاح البلد إذا ما سحِبَت منه الشوائب التي ركَّز عليها زياد.
في المحصِّلة، لم ينتصر أيٌّ من “اللبنانَيْن” وانتهت مباراة الأب والعم مع الابن بالتعادل السلبي: “لكم لبنانكم ولي لبناني”.
