للمرة الثانية يغادر ميشال عون قصر بعبدا. الأولى كانت في 13 تشرين الأول 1990، والثانية اليوم في 30 تشرين الاول 2022. إثنان وثلاثون عاماً وثمانيةَ عشر يوماً تفصل بين المغادرةِ الأولى والمغادرةِ الثانية … فماذا تغيّر؟ عون طبعة 1990 غادر على عجل، هرباً من القصف الجوي السوري، ولجأ إلى السفارة الفرنسية. أما اليوم فإن عون غادر بأُبّهة وفخفخةٍ وبمراسمَ تشبهُ مراسمَ التنصيب في بداية الولاية، لا مراسمَ الوداعِ في نهايتها ! لكنْ في الحالين، عون سلّم البلد إلى المجهول والفوضى والخراب . في العام 1990 سلّم قصرَ بعبدا إلى الجيش السوري ، تماماً كما سلّم وزارةَ الدفاعِ في اليرزة، فسقط أكبرُ وأهمُ وأبرزُ معقلين للشرعيّة اللبنانيّة. واليوم سلّم البلدَ إلى الفراغ القاتل. مع ذلك نقطةٌ إيجابيةٌ وحيدة تُسجّل لعون ال 1990. ففي بيتِ الشعب، كما أسماه آنذاك، لم تكن ترتفع سوى الأعلامِ اللبنانيّة وأعلام الجيش اللبناني. أما اليوم فإنَّ أعلامَ التيارِ الوطنيّ الحرّ كانت الطاغية، مع أعلام قليلة من حزب الله، باعتبار أنَّ الحزب أمّن له الدعمَ الشعبي من الضاحية، وذلك لضرورات اكتمالِ الحشدِ في ساحة بعبدا ! والأعلام الحزبيّةُ الفئوية تؤكّد مرّة جديدة أنَّ عون لم يكن رئيساً لجميع اللبنانيّين. إنه رئيسٌ لفئة واحدة هي التيارُ ومناصروه و لحزب الله لا أكثرَ ولا أقل. وبالتالي فإنَّ عبارة “بي الكل” غير دقيقة، لأنه لم يكن طيلةَ ستِّ سنوات أباً إلا لحزبه و”نصفَ أب” لحزب الله! في العمق والجوهر، الامور ادهى واخطر. ففي خطبة الوداع لم يكن خطاب ميشال عون لا على مستوى الحدث ولا على مستوى المرحلة. هو تكلم كرئيس فصيل معارض لا كرئيس للجمهورية اقسم على احترام الدستور وحكم البلاد ست سنوات كاملة. رئيس الجمهورية الذي ادعى مناصروه في بداية عهده انه “الرئيس القوي”، قال حرفيا إن البلد مسروق والدولة مهترئة، إن الحكم ثأري ولا ثقة بمؤسسات الدولة، وإن القضاء اما خائف او مرتش. فاذا كان كل ما يقوله رئيس الجمهورية صحيحا ، فيجب ان يحاكم على ما فعله وعلى ما لم يفعله طوال ست سنوات، لا ان يخرج من قصر بعبدا خروج الابطال المنتصرين! أكثر من ذلك، عون لم يأت في خطابه على ذكر الفراغ الذي خلّفه في السلطة، فكأن الامر لا يعنيه، او كأنه ليس من مسؤوليته ان يؤمّن انتقالا هادئا للحكم ، ما يثبت مرة جديدة ان عون وتيارَه يريدان الفراغ ويسعيان اليه. فالفراغ يولد الفوضى، والفوضى يمكن ان تخلق واقعا جديدا وظروفا اخرى، قد توصل جبران باسيل الى رئاسة الجمهورية!
اكثر من ذلك: عون وقع اليوم مرسوم استقالة الحكومة ويضغط على وزرائه ووزراء التيار لكي يعتكفوا عن اي نشاط وزاري. من جديد , انه يمارس سياسة النكد والتدمير الممنهج وصولا الى الخراب الكبير . لكن فات عون ان البلد ابتداء من الغد سيفتح صفحة جديدة , مؤشراتها الأولى ستبرز في الإقتصاد وفي سعر صرف الليرة .
لكن الفضيحة الكبرى في خطاب عون تكمن في حديثه المجتزأ عن جريمة المرفأ. فهو لم يحترم ذكرى الضحايا الذين سقطوا، ولا اوجاع الجرحى والمعوقين الذين اصيبوا، كما لم تَعن له شيئا البيوت التي تهدمت والشوارع والاحياء التي تدمرت ! فقط تذكر الموقوفين الذين اعتبرهم ضحايا! فما هذه النظرة المجتزأة الى اكبر جريمة في تاريخ لبنان؟؟ وكيف يسمح رئيس جمهورية لنفسه ان يتجاوز آلام شعبه وهدم مدينته؟ في النهاية، يقول عون في خطابه : لقد عدنا من الحجر الى البشر. فيا حضرة الرئيس، نطمئنك. فالبشر عملوا بنصيحتك وهربوا من جهنم عهدك الى بلاد الله الواسعة، اما الحجر فسقط واندثر، لأن عهدك الميمون والمزدهر لم يترك حجرا على حجر!