IMLebanon

النفايات.. كنموذج لمنهبة المال العام

من الخلوي إلى الكهرباء والضمان والجمارك ومزراب الإغاثة

النفايات.. كنموذج لمنهبة المال العام

ايلي الفرزلي

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الخامس والسبعين بعد الأربعمئة على التوالي.

لم تكد الحكومة تتنفس الصعداء بإقرارها خطة «آخر الليل» الهادفة الى إيجاد حلول قصيرة وبعيدة المدى لأزمة النفايات، حتى جاءها الجواب سريعا. تعبيرات شعبية، ولو أن بعضها كان متواضعا، من عكار الى صيدا مرورا بالناعمة وبرج حمود والبقاع، تقاطعت عند رفض الخيارات الحكومية برغم كل الرشى التي قدمت سابقا في ظروف و«مناسبات» مختلفة وظلت حبراً على ورق، وخصوصا في البقاع والشمال.

مستوى الفساد جعل الناس يقيمون في الشارع. نَفَسهم صار أطول، وقدرتهم على «التطنيش» صارت أقل. من الخلوي إلى الكهرباء والماء فالضمان الاجتماعي وصولاً إلى النفايات، مروراً بالفشل السياسي رئاسة ومجلساً نيابياً وحكومة. طفح الكيل عند الناس فكسروا الخوف، ونقلوه إلى السلطة التي لم تشعر يوماً بالضغط الذي تشعر به اليوم. السلطة التي اعتادت التصرف بأموال الشعب كما يحلو لها، بعدما شلّت المؤسسات الرقابية، تنبهت فجأة إلى أن هذا الشعب صار رقيباً على كل صفقاتها المشبوهة.

و«الأخطر» أن الحالة الشعبية لم تعد «هبّة وتنتهي»، بل هي تكاد تتحول مع الوقت ومع عجز السلطة الكامل، إلى مؤسسة حقيقية. هذه المؤسسة لا تطرح نفسها بديلاً، بل جلّ ما تنادي به هو وقف سرقة الناس لأن الكيل قد طفح.. مثلما تنادي بتطبيق القوانين والدستور لأنه وحده الكفيل بإغلاق مغارة علي بابا. فمن عايش توسّع تلك «المغارة»، يؤكد أن مستوى الفساد المتفاقم اليوم يعود ببساطة إلى عدم تطبيق القوانين. فيما يعود الشلل المؤسساتي إلى الإصرار على عدم تطبيق الدستور، بحيث يصبح إقرار الموازنة تفصيلاً (عشر سنوات من الصرف وفق القاعدة الاثني عشرية) وإجراء الانتخابات ترفاً وانتخاب الرئيس بلا جدوى، ويصبح مجلس الوزراء لزوم ما لا يلزم ومجلس النواب منبراً للوجاهة.. ثم يصبح مفهوماً أن لا تعلو مؤسسة على «مجلس الملل».. المسمى تلطيفاً «طاولة الحوار».

ومن يريد أن يرسم جدولاً بيانياً للسرقات المتراكمة، يركز على العامين 1996 و1997. ليس شكلياً ما قامت به الدولة حينها لتخفيض العجز، أو بشكل أدق، للإيحاء بتخفيض العجز. ولمن لا يتذكر، فإن التغذية بالتيار الكهربائي في ذلك الوقت كانت قد وصلت إلى ما بين 21 ساعة و24 ساعة يوميا، قبل أن تتراجع فجأة، بعدما عمدت الحكومة إلى الاحتيال على القانون من خلال عدم إظهار العجز الحقيقي للكهرباء في الموازنة.

وعليه، توقف الاستثمار، وحتى الصيانة في القطاع، فيما لم يُسدد هذا العجز الناتج من دعم كلفة الكهرباء نظامياً من الخزينة، كي لا يسجل عجزاً في الميزانية.. قبل أن يتدحرج الحجر فتتوقف الاستثمارات ويتحول قرار التقنين إلى أمر واقع ينهك الناس.. ولا يزال، وتتحول مأساة الكهرباء إلى تهمة يتقاذفها السياسيون.. ولا يزالون، فيما الأرقام وحدها تحكي.

وحدها الكهرباء حمّلت الدولة حوالي ملياري دولار سنوياً بما يوازي 23.2 مليار دولار من العجز المستمر، أي أن الكهرباء تأكل حوالي 48 إلى 50 في المئة من عجز الموازنة سنوياً، والسبب هو الهدر والسمسرات على التلزيمات المتوقفة، ناهيك عن مافيا الفيول وبواخرها ورسوم تأخيرها.

الضمان الاجتماعي.. يترنح

أما الضمان الاجتماعي الذي يستفيد منه حوالي مليون و300 ألف مستفيد على عاتق 540 ألف مضمون، فلم يكن أفضل حالاً. لم تدفع الدولة الديون المترتبة عليها للضمان، فتراكم العجز لديه، ولا سيما في فرع المرض والأمومة، حتى اضطر إلى سده من فرع تعويضات نهاية الخدمة، إضافة الى لجوئه إلى إقفال فرع الضمان الاختياري وطرد المنتسبين إليه من المستشفيات، بعدما فضلت إدارة الضمان، أو أُجبرت على عدم رفع دعوى على الدولة لمطالبتها بالمستحقات.

وما تعاني منه الكهرباء، يعاني منه الضمان: هدر وتلاعب في فواتير الطبابة والاستشفاء. مخالفات فاضحة للمستشفيات والأطباء والمؤسسات الضامنة التي تحمّل الخزينة سنوياً من 580 الى 700 مليار ليرة وبجدوى الحد الأدنى للمواطنين، علماً أن الهدر في الفاتورة الصحية يأكل نحو 30 في المئة من موازنة الاستشفاء بغياب الرقابة الفاعلة والجدية واستمرار سياسة المحسوبية السياسية في التوظيف والتعيين.

وكما في عجز الكهرباء كذلك في عجز الضمان، فلقد وجدت الدولة الحل من خارج الموازنة، فأصدرت الحكومة قانوناً لتقسيط هذه المستحقات، بما يخفي العجز الحقيقي، ولا يظهر هذا الدين في مالية الدولة!

قصة النفايات، بدأت قبل انفجارها بزمن بعيد. لم تلجأ السلطة إلى الانتخابات البلدية بعد الطائف، بل فضّلت التصرف بحصة البلديات من أموال الخلوي والصندوق البلدي المستقل. فجأة صارت «سوكلين» و «أخواتها» في جميع المناطق أداة لشفط «الأموال السائبة» وبديلاً من البلديات بكلفة عالية ولا من يحاسب أو يراقب، بعدما تعاقدت معها الدولة من دون الرجوع إلى البلديات.

هذا المسار بدا شبيهاً بطريقة التعامل مع قطاع الخلوي الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى فرصة للربح السريع على حساب الناس، في ظل سيطرة أهل السلطة على القطاع الذي سُمّي «نفط لبنان».. أو بدقة أكثر «نفط الطبقة المسيطرة»، فيما كان الناس مضطرين لدفع أغلى فاتورة هاتفية في المنطقة مقابل الخدمة الأكثر رداءة.

وكما حصل في الخلوي كذلك يحصل في النفايات. ومع افتراض حسن النية، لا إعادة توزيع الحصص، فقد وصل الفساد إلى مستوى عجزت السلطة عن تبريره، ففضت عقود النفايات (الأغلى في العالم)، لتنفجر الأزمة في الشارع، كما كانت قد تعاملت وما تزال مع عقود الخلوي.

هدر مفضوح في الجمارك

كل ما سبق كان عنوانه واحداً: إيرادات غير واقعية تسجل في الموازنة ومصاريف واقعية لا تسجل في الموازنة نفسها، والأخطر ما تخسره الدولة نتيجة عدم تطبيق القوانين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن لبنان كان يستورد في العام 2009 بقيمة 13 مليار دولار وكانت الايرادات الجمركية تساوي حوالي 2.7 مليار دولار، في حين أن لبنان استورد خلال العام 2014 بقيمة 21 مليار دولار، أما العائدات فكانت بحدود 2.2 مليار دولار، أي أنها تراجعت بدل أن تتضاعف، وهذا الأمر إن دل على شيء إنما على سرقة المال العام.

هنا لسنا أمام أمور شكلية.. ما حصل أن التحايل في مسألة الضمان أدى إلى إفلاس فرع الضمان الاختياري وإذلال الناس على أبواب المستشفيات. وما حصل في الكهرباء أن التغذية بالتيار صارت حلماً يراود اللبنانيين المضطرين إلى دفع فاتورة ثانية. وما حصل بعد سرقة أموال البلديات أن انتشرت النفايات بين الناس. وما حصل مع الخلوي أن اللبنانيين يدفعون أعلى فاتورة في العالم مقابل الخدمة الأكثر رداءة.

وعليه، صارت النتيجة إما سرقة الناس، من خلال التخلي عن تقديم خدمات مستحقة لهم وتحميلهم أعباءً إضافية، من دون أن يكون هنالك مسؤول على شاكلة الكهرباء والضمان والخلوي، وإما سرقة الأموال العامة بحجة أن لا صاحب لها، كحالتي الخلوي (تحويل أموال البلديات من الخلوي إلى الخزينة) والنفايات (تحويل أموال الصندوق البلدي المستقل إلى «سوكلين» من دون مرورها عبر الخزينة).

مزراب «الهيئة العليا للإغاثة»!

للمناسبة كيف قررت الحكومة رشوة عكار، ولاحقاً البقاع، بـ150 مليار ليرة؟ وماذا يعني أن تكلف الهيئة العليا للإغاثة بدفع المبلغ؟ هل الهيئة صارت بديل وزارة المال؟ وهل أموالها ليست أموالاً عامة حتى يسهل التصرف بها بقرار من الحكومة أو حتى بقرار من رئيسها؟ أم أنها ببساطة، كالصندوق البلدي المستقل، أحد مزاريب الهدر الرسمي والفساد.. ولا بد من إقفالها أو إعادتها إلى حجمها القانوني؟