IMLebanon

«طاولة بعبدا»: تعويم العهد أم ترتيب بيت السلطة؟

     محطة جديدة من «المهادنات المأزومة» لإزالة آثار منازلة قانون الإنتخاب

    «تيار الرئيس يسعى إلى حصة كبرى في التعيينات المسيحية في الإدارة تستمر لما بعد الرئاسة»

هل سلّم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بقواعد اللعبة السياسية التي تحكم البلاد؟ مردّ السؤال يعود إلى «طاولة بعبدا» التي جمعت رؤساء أحزاب السلطة بدعوة منه وخرجت بـ«ورقة عمل» فضفاضة أشبه ببيان وزاري قديم – جديد. تلك الطاولة تأتي في أعقاب الحاجة إلى إعادة تعويم العهد التي بهتت صورته وتشظّت في غضون أشهر معدودة لم تتجاوز الثمانية.

لا شك أن إدارة التفاوض حول قانون الانتخاب الذي كان من أولويات الحكومة الحريرية، تركت ندوبها على العلاقة بين المكونات السياسية – الطائفية في البلاد. ولعل أكثر القوى التي خرجت متشظية من هذا الاستحقاق هي «التيار الوطني الحر» بعدما رفع رئيسه جبران باسيل سقف توقعاته ورهاناته وبالغ في توّهم قوته متكئاً على زخم «سيد العهد» الذي لم يحقق بوصوله الى قصر بعبدا حلماً قديماً فحسب، بل أعاد الاعتبار لجماعته السياسية والطائفية، التي دفعت، اضطهاداً وتهميشاً وهجرة قسرية، ثمن طموحات قائدها وحساباته الإقليمية والدولية الخاطئة يوم كان رئيساً للحكومة الانتقالية مع انتهاء عهد الرئيس السابق أمين الجميل عام 1988.

غير أن التشظي طال أيضاً رئيس الجمهورية بوصفه «عرَّاب التيار» ذي الطروحات والأهداف الواحدة، وإن كان أضحى رئيساً للبلاد مؤتماً على دستورها وعلى انتظام عمل المؤسسات وفي موقع الحَكَمْ لا الطرف، وهو كلام يغدو كلاماً مثالياً لا يشبه الواقع السياسي في البلاد الذي تطفو على سطحه مع كل استحقاق أمراض الطائفية والمذهبية والشعبوية فتخدِّر عقول البيئات على اختلاف تنوعها وتضع لبنان على حافة الهاوية.

فبعدما أدخل الاستحقاق الانتخابي البلاد في أزمة سياسية تم خلالها استنفار العصبيات الطائفية تحت شعار «استعادة حقوق المسيحيين» بالاستناد إلى معادلة الرئيس القوي، ليقابلها على المقلب الآخر استنفارات لا تقل حدَّة، انتهت المنازلة السياسية إلى إنجاز قانون أمّن في النهاية التمديد لـ أحد عشر شهراً، الأمر الذي كان مطلباً لكثير من القوى المنغمسة في الصراع الإقليمي وتلك التي تشاركها الرؤية بأن الساحة اللبنانية ليست مفصولة عما يجري في المنطقة، لا بل تشكل انعكاساً لها.

وفي رأي مراقبين، فإن تجربة العهد خلال الأشهر السبعة الأولى منه والمخاض الصعب لولادة قانون الانتخاب وما رافقه وسبقه من احتكاكات مع قوى رئيسية في السلطة وفي مقدمها رئيس مجلس النواب نبيه بري، فضلا عن رئيس «اللقاء الديموقراطي» وليد جنبلاط ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، قد أفضى إلى الخروج بجملة من الاستنتاجات، لعل أهمها أن البلاد لا يمكن أن تحكم إلا من خلال اعتماد نهج «الواقعية السياسية»، والأخذ في الحسبان التركيبة الداخلية وتوازناتها حيث أن أحداً لا يستطيع أن يلغي أحداً أو أن يشطبه من المعادلة.

ومع انتهاء منازلة قانون الانتخاب، بات مطلوباً اعادة فتح صفحة جديدة في ظل «النهج البراغماتي» الذي لا بد من أن يطبع المرحلة المقبلة، نظراً إلى حجم التحديات التي تنتظر العهد وحكومته الراهنة التي يفترض أن تعمّر قرابة السنة من الآن الى حين موعد الانتخابات المقبلة وإنتاج سلطة سياسية جديدة- إذا حصلت الانتخابات!.

فالمخاض الانتخابي وارتفاع منسوب الاشتباك السياسي الذي رافقه تقدما إلى الواجهة، على حساب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية الآخذة بالتفاقم، والتي أضحت كالجمر تحت الرماد. وتدرك السلطة أن هذه الأزمات تحولت اليوم قنبلة موقوتة معدة للانفجار في أي لحظة، من ملف الكهرباء الى ملف النفايات فسلسلة الرتب والرواتب، وكيفية تحريك الدورة الاقتصادية مع ارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن تحديات أزمة النزوح، وتحديات العقوبات الأميركية على «حزب الله» التي ستعيد الضغوط على المصارف اللبنانية وتترك تداعياتها على العلاقة مع الحزب وبيئته الحاضنة.

فـ«ورقة العمل» التي أقرتها طاولة بعبدا ليست سوى عناوين عامة في غالبيتها، تحتاج في شقها السياسي إلى مناخات سياسية توافقية مؤاتية من أجل استكمال تنفيذها في وقت تسود القناعة أن الظروف التي تمر بها المنطقة تتطلب الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، وليست التحديات المحيطة مُناسِبة لطرحٍ أيٍّ من البنود المثياقية التي قد تؤول الى خلق أجواء خلافية تهزّ الاستقرار المفترض أن يكون الهاجس الأول.

أما الشق الاقتصادي، فإنه يحتاج إلى مخططات رئيسية وإلى برامج تنفيذية وورشة عمل حقيقية يمكن أن تشق طريقها، لكنها تبقى محفوفة بالخطر الأكبر الجاسم على الحياة السياسية اللبنانية بعدما أضحى منطق المحاصصة والصفقات والشبهات يحوم على أي مشروع تطويري أو إنمائي، في وقت يسود الحذر لدى قوى في المعارضة كما في السلطة من أن يكون الكلام عن الحاجة إلى ورقة اقتصادية هدفه التغطية من أجل تمرير الصفقات الكبرى بعد أن تؤدي خطوات تعزيز تضامن أهل السلطة إلى إرساء قواعد المحاصصة للإفراج عن المشاريع التي حددتها ورقة العمل لنهضة الاقتصاد الوطني.

على أن المسألة الأهم التي ستتقدم على ما عداها من المسائل، فإنها تكمن في ملف التعيينات الادارية والدبلوماسية والقضائية وغيرها من ملء الشواغر في المؤسسات العامة، حيث أن هذه المسألة تشكل حاجة للعهد قبل غيره، ذلك أنه قادر على التحكم بالتعيينات المتعلقة بالطائفة المسيحية برمتها على حساب القوى الأخرى ضمن الطائفة، وهي مسألة توفرها له سياسة استئثار كل طائفة بالتعيينات العائدة إليها بعيداً عن منطق المؤسسات التي تتخذه واجهة ليس إلاّ، كما هيمنة الزعماء السياسيين لكل طائفة على اختيار الاسماء العائدة لطوائفهم، وفي هذا الاطار سيكون للرئيس وتياره الحصة الكبرى من التعيينات المسيحية بعدما استطاع بوصوله الى سدة الرئاسة من تكريس نفسه الممثل الأقوى مسيحياً، بحيث يتحكم تياره بالإدارة لسنوات ما بعد رئاسته.

وإذا كانت طاولة بعبدا كسرت الحواجز بين رئيس الجمهورية وبعد خصومه داخل بيت السلطة، فإنها هدفت إلى إرساء العلاقة التي ستحكم بين أركان الحكم، تحت عنوان اعادة ترتيب الأولويات قبل هبوب العاصفة الداخلية التي يقول الاقتصاديون إنها آتية لا محالة، وهي علاقة «مهادنات» تفرضها الحالة المأزومة لدى الجميع، حيث لا خيارات أخرى أمامهم .!