IMLebanon

بين «الديموقراطية التوافقية» و«الميثاقية الطوائفية»…

منذ زمن بعيد، اختار الزعماء اللبنانيون «الميثاق الطائفي» قاعدةً للعقد الاجتماعي، ثمّ جاء «الطائف» ليكرّس تلك القاعدة في النصوص والنفوس ويَطرح «الديموقراطية التوافقية» حلّاً للمشكلة الطائفية…

إنبثقت النظرية التوافقية في الحكم من خلال تجارب الدول المتعدّدة المكوّنات، والتي كانت تعاني توتّرات سياسية وأمنية، ممّا حدا بقادة وسياسيّي تلك المكوّنات إلى اعتماد التوافق بينها، لخلقِ بيئة سياسية مستقرة، ويُعطي هذا المبدأ حقّ «الفيتو» المتبادل أو ما يُصطلح عليه (حكم الأغلبية المتراضية).

ويُعتبَر المفكّران «غيرهارد لمبروخ» و»غابرييل الموند» من أبرز واضعي أسُس «الديموقراطية التوافقية»، ونظّرَ لها العالِم السياسي الهولندي «أريند ليبهارت» عبر العديد من الدراسات والبحوث، خصوصاً كتابه الشهير (الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدّد).

بدأت رحلة ما يُسمّى «الديموقراطية التوافقية» في لبنان يوم اجتمعَ النواب في الطائف عام 1989، وقرّروا تحويلَ السلطة الإجرائية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ويوم أضافوا إلى الدستور عبارة «التوافقية» في اتّخاذ القرارات، و»أكثرية الثلثين» في بعض المواضيع، كما جاء فـي الفقرة «هـ» من المادة 65 من الدستور.

وأكملت «الديموقراطية التوافقية» رحلتَها يوم أضاف نواب الطائف، بطريقة مبهَمة، الفقرة الأخيرة من مقدمة الدستور «لا شرعية لأيّ سلطة تُناقض ميثاقَ العيش المشترك»، ويوم نزَعوا من صلاحيات رئيس الجمهورية سلطة حلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة.

خلال فترة الوصاية السورية التي استمرّت ثلاثة عقود، لم يُعطَ اللبنانيون فرصة حكم أنفسِهم بأنفسهم، وأُخضِعوا لنظام ديكتاتوري فرض عليهم القوانين الانتخابية، وأشكالَ الحكومات، وأسماءَ الرؤساء والوزراء والتعيينات كافة… من دون أن يتجرّأ أحد على أن ينبسَ ببِنت شَفة. وقد تعاونَ مع هذا النظام، ويا للأسف، فئة من اللبنانيين قدَّموا مصالحَهم الخاصة على مصلحة وطنهم. فظنّ البعض عن جهلِِ أو عن قصد أنّ «الديموقراطية التوافقية» التي أنجَبوها في «الطائف» بألف خير، ما دامت الطوائف والمذاهب تشارك كلّها في الحكومات، وما دامت مصالح هذا البعض مؤمَّنة.

ثمّ جاء «مؤتمر الدوحة» الذي عُقد بعد أحداث 7 أيار 2008، وأضافَ جرعةً جديدة على «الديموقراطية التوافقية» وسمّاها «الثلث المعطّل»، أو «الثلث الضامن» في الحكومة، أي وجوب اشتراك المعارضة في الحكومة بثلثِ عددِ الوزراء زائداً واحداً. وهذا ما سَمح لأحد أطراف الخارج الإقليمي فرضَ صيغة جديدة لإدارة الملف اللبناني ووضعه مجدّداً على طاولة المفاوضات.

هذا الشكل الجديد من أشكال الديموقراطية، عرفَته قبلَنا بعض البلدان الأوروبّية، مِثل سويسرا وبلجيكا وهولندا والنمسا، بسبب التعدّدية في مجتمعات هذه البلدان، سواءٌ أكانت قومية أو لغوية أو دينية.

وطبَّقها كلّ بلد على طريقته وبما يتلاءَم مع مجتمعه، وذلك بعد سنوات طويلة من الحروب والنزاعات. وقد توصّلوا، بعد مخاضٍ عسير، إلى هذا الشكل الجديد من الديموقراطية عندما ارتقَت مجتمعاتهم إلى درجةٍ عالية من الثقافة والحضارة والتمدّن، وسادت بين شعوبها العلمانيةُ الراقية والمواطنة الصافية.

فهل توصّل الشعب اللبناني بكلّ طوائفه ومذاهبه ومجتمعاته إلى هذا المستوى الحضاري الذي يؤهّله إلى تطبيق «الديموقراطية التوافقية» والتزام «الميثاقية الطوائفية» العادلة؟ وهل يمكن لأحزاب طائفية ومذهبية تسعى جاهدةً إلى «تناتش» السلطة والنفوذ والسيطرة، أن تتّفق مع بعضها على بناء مجتمع «مدني»، «توافقي»، تسوده العدالة والحرّية وتَكافُؤ الفرص؟ كيف يمكن بعد اليوم تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس للجمهورية؟ كيف يمكن بعد اليوم تأمين انتقال السلطات بطريقة سلمية وحضارية… إذا توهّمَت أيّ طائفة أنّها لم تنَل الحصة المناسبة في الحكم، تنادي بالمظلومية، تعادي الدولة، وتهدّد المجتمع، لأنّها لا ترى من الدولة والمجتمع إلّا ما تَعتبره حقّاً لها.

لقد أصبحَت كلّ الاستحقاقات الدستورية في مهبّ الرياح الداخلية والإقليمية والدولية، وأصبح بإمكان أيّ فئة من مكوّنات الـمجتمع اللبناني، أن تعطّل انتخابات رئاسة الجمهورية إذا كانت غيرَ راضية عن إسم الرئيس، كما أصبح بإمكان أيّ فئة تعطيل تشكيل أيّ حكومة، إذا كانت غيرَ راضية على حصصِها الوزارية وعلى توزيع الـحقائب وأسـماء الوزراء. وهذا الوضع مخالف لكلّ القوانين الدستورية في العالم، ومخالف لأبسط قواعد الديموقراطية وأبسط أُسس الاستقرار.

لا يمكن لـ«الديموقراطية التوافقية»، ولا «الميثاقية الطوائفية» أن تَعنِيا «التعطيل» وشللَ المؤسسات و«التمترسَ» وراء الطائفة والمذهب أو الحزب من أجل مصلحة شخصية أو فئوية، كما لا يمكنهما أن تَعنِيا العناد والتفرّد بالرأي و»شخصَنة» المطالب و«تناتش» الحصَص والمراكز… إنّ أمنَ الوطن واستقرارَه أهمّ وأقدسُ من كلّ الكراسي والمراكز والطموحات.

فإذا بقيَت هذه الديموقراطية من دون قواعد ثابتة وواضحة ولا ضوابط معقولة ومقبولة، وإذا بقيَ هذا الوضع على حالِه من دون معالجة دستورية وتنظيمية، سيكون بلا أدنى شكّ سبباً من أسباب فرقة اللبنانيين وخلافهم وتجدّدِ نزاعاتهم عند كلّ استحقاق. وسيَسعى كلّ طرَف للاستفادة من ظروف داخلية يَعتبرها لمصلحته، لتوسيع حجمِه وحصّته فـي السلطة والنفوذ، بعيداً عن التوازنات التوافقية، ممّا سيُبقي بابَ الوطن مشرّعاً على كافة التدخّلات القريبة والبعيدة.

لقد أنجبَت حرب الخمس عشرة سنةً «إتّفاق الطائف»، والحكْمَ الجماعي أو التوافقي، وأنجبَت حوادث 7 أيار «إتّفاق الدوحة»، والثلثَ «الـمُعطّل» أو «الضامن»، وكرّسَت تلك الحوادث «فيديرالية الطوائف» بكلّ أبعادها ومراميها. فماذا ستنُجب الخلافات التي ستتجدّد وتتعمَّق عند كلّ استحقاق دستوري سوى صدامات طائفية ومذهبية ومزيد من الحروب والمآسي؟

إنّ «الميثاق الطائفي» الذي اختارَه لنا زعماؤنا هو مصدر عدمِ استقرار دائم، لأنّ «شعوبنا» لم ترتقِ إلى مستوى المواطنة، ولأنّ الطوائف لا تعرف إلّا مصلحتَها وما يناسب قادتَها، فإذا لم يتحرّر الأفراد من طوائفهم ويتحوّل انتماؤهم للدولة، ضاع الوطن وسَقطت الدولة.

لكي لا يبقى لبنان ساحة تجاذب وصراع، وريشةً في مهبّ عوارض السياسات الخارجية، ولكي لا يبقى الخارج مَن يصنع الرؤساء ويؤلّف الحكومات، يجب العودة فوراً إلى الديموقراطية التمثيلية المبنية على قانون انتخابيّ عصري يؤمّن التمثيلَ الصحيح والمناصَفة الحقيقية التي حدّدها الدستور، وليكُن هناك معارضةٌ من كلّ الأطياف والمذاهب، وموالاةٌ مِن كلّ الأطياف والمذاهب، وليَسعَ فريقا المعارضة والموالاة إلى التنافس من أجل الإصلاح وكسْبِ تأييد المواطنين، والحصول على الأغلبية لتسلّمِ الحكم، كما تفعل معظم القوى السياسية المختلفة في العالم. ويكون المجلس النيابي منبراً حرّاً لمحاسبة الحكومة على أعمالها، فيَدعمها بثقته إذا نجَحت، ويسحب ثقتَه إذا فشلت.

أمّا الطريق الواجب اتّباعُها من أجل الوصول إلى ديموقراطية صحيحة وعادلة، وإلى تداولِ السلطة بطريقة سلمية وحضارية، هي طريق شاقّة وطويلة، تحتاج إلى برنامج عملٍ وطنيّ كبير، وإلى وعيٍ وثقافةٍ ورقيّ، وإلى قادةٍ عظماء، يضَعون مصلحة الوطن قبل مصالحهم الخاصة، وهذا يا للأسف غير متوافر في الوقت الحاضر.

فيا أيّها المتاجرون بالطائفية، والمتلاعبون بغرائز الناس، إرحَموا وطنَكم وشعبكم لكي يرحمكم مَن في السماء.