IMLebanon

ما بعد عرسال: ضغوط سعوديّة ـ إيرانيّة مرتقبة

لم يعد السؤال حول موعد الانتهاء من وجود الجماعات الإرهابية في جرود عرسال وفليطة هو السؤال الأهمّ، فالمسألة أصبحت مسألة وقت بعدما تأمَّنَ القرار السياسي الكبير والظروف المحيطة به، والتفاهمات التي حيكت حوله.

صحيح أنّ «حزب الله» الذي يتولى دور رأس الحربة في الميدان، يوجه رسائل بالجملة الى جميع الاطراف والدول التي تراقب قدراته القتالية الرفيعة و«رشاقته» الميدانية، وفي طليعة هذه القوى اسرائيل، الّا ان قيادة الحزب لا بد انها إحتسبت جيداً لمرحلة ما بعد جرود عرسال والمعادلة السياسية الجديدة التي يجري تكريسها للمراحل المقبلة.

وعلى الرغم من صعوبة المنطقة وطبيعتها الوعرة والصعبة نجح «حزب الله» في توجيه رسالة الى القوى البعيدة والقريبة حول جهوزيته الميدانية والخبرة التي اكتسبها من الميدان السوري في وقت تعثر كثير من القوى العسكرية في مواجهات مع الارهابيين في ظروف مشابهة، اضف الى ذلك ان تشابه الجغرافيا في الشرق الاوسط وجه الى اسرائيل، والى غيرها ربما، الرسائل الميدانية المطلوبة.

لكن الجانب السياسي والظروف التي ادت الى انضاج قرار تحرير جرود عرسال من التنظيمات الارهابية تبقى الأهم. «حزب الله» الذي كرّس نفسه رقماً اقليمياً في المعادلة ما كان ليخوض مواجهة بهذه الاهمية لولا أنه درس جيداً الابعاد والتأثيرات المتأتية منها لاحقاً.

صحيح ان لديه مصلحة مباشرة وكبيرة في تطهير هذه الجرود من المجموعات الارهابية، لكنه كان قد تأقلم مع هذا الواقع في السنوات الماضية وعلى اساس تطويق هؤلاء والتحكم بالمنافذ المؤدية اليهم واقتناص الفرص لاصطياد من يتجاوز الخطوط الحمر التي رسمها.

ومن الملاحظات ايضاً انطلاق العملية في اتجاه «جبهة النصرة» في المرحلة الاولى بعد ان كان القرار بأن تكون مجموعات «داعش» هي اول المستهدفين، وقيل ان لذلك علاقة ربما بالمفاوضات التي جرت، ما دفع الى وضع «النصرة» في الاولوية، إلّا ان البعض يربط ذلك بما هو ابعد.

فيوم اندلعت المعارك في جرود عرسال كانت مجموعات «النصرة» في منطقتين اساسيتين في الداخل السوري تخوض مواجهات شرسة ايضاً، وبالتزامن كان امير قطر الشيخ تميم بن حمد يخرج في كلمته للمرة الاولى منذ انفجار أزمة الخليج ليعلن ان بلاده ضد الارهاب وهي تحاربه.

في السابق كان يحكى عن علاقة مميزة و«مونة» قطرية على «النصرة». وتظهّر ذلك في وضوح خلال المفاوضات التي ادارها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم لتحرير الجنود اللبنانيين الذين أسرتهم «النصرة» في عرسال.

الاوساط الديبلوماسية الغربية تضع معركة جرود عرسال في اطار اللوحة الاقليمية الكبرى، وتحديدا من ضمن التفاهمات التي جرت أخيراً بين مختلف القوى والتي توجتها القمة الاميركية ـ الروسية.

وفيما تبدو الخطوة الاهم تكريس المنطقة الجنوبية لسوريا منطقة خفض توتر وإعطاء الاردن دوراً هناك وترتيب منطقة بعمق 30 كلم من الحدود مع اسرائيل خالية من الوجود المباشر لإيران و«حزب الله» تمّ التساهل مع هدف ايران بربط العراق وسوريا.

صحيح أن اسرائيل أبدت اعتراضها، لا بل غضبها، على اقتصار العمق على 30 كلم بدلاً من 49 كلم وعلى توسيع هامش التحرك الايراني عبر الحدود العراقية ـ السورية، إلاّ ان ذلك يعطي مؤشراً واضحاً الى بدء ترتيب خريطة النفوذ الجديدة في المنطقة، والتي ستأخذ لاحقاً عنوان النزاع ما بين ايران والمحور العربي المناهض لها والذي سيضم اسرائيل بعد انجاز التسوية بينها وبين الفلسطينيين.

هذا النزاع يستلزم تكريس حد ادنى من النفود الايراني وهو ما عُرِّف عنه سابقاً بـ«الهلال الشيعي».

وبغض النظر عن الخطاب الاميركي المعلن والذي يتضمن تصعيداً اعلامياً او سياسياً، فإن الوقائع تظهر صورة أُخرى، كمثل القرار الاميركي بوقف برنامج تدريب الفصائل المعارضة وتسليحها، شروع ادارة ترامب قدماً في الاتفاق النووي مع ايران بنحو يناقض ما تعهد به ترامب خلال حملته الانتخابية، واعلان الرئيس الفرنسي عدم معارضته بقاء الرئيس بشار الاسد، وذلك اثر لقائه الرئيس الاميركي والترتيبات الجديدة في سوريا والتي شكلت ايران احد اطرافها.

وفي اطار كل ذلك يمكن ادراج معركة جرود عرسال والنتائج المرتقبة منها ولا يمكن اغفال معارضة نتنياهو للاتفاق الاميركي – الروسي بسبب استمرار «الخطر» الايراني، كما سمّاه، للاستنتاج بأن التفاهمات خلف الكواليس لا تتوافق مع التصعيد الاعلامي والسياسي.

ووفق مصادر ديبلوماسية اميركية فإن واشنطن تركز في المرحلة الحالية على اربعة اولويات:

1 – إنهاء وجود التنظيمات المتطرفة، ولا سيما منها «داعش» و»النصرة» والمجموعات الرديفة، والانتقال الى مرحلة ترتيب اوضاع المنطقة للمراحل اللاحقة.

2 – الرهان على قوى حقيقية موالية لواشنطن مثل القوة الكردية والتي تولت وما تزال محاربة «داعش» بجدارة، حيث تتركز المعارك اليوم في الرقّة وليس ابداً «جيش سوريا الحر» او ما اعتبرته «وهم» القوة المعتدلة، مشيرة في هذا المجال الى القرار الاميركي بوقف تدريب وتسليح المجموعات المعارضة التي لم تظهر جدية من الاساس، اضافة الى انّ الاعداد القليلة التي درّبها الاميركيون كانت تنضم عند اول فرصة سانحة الى التنظيمات الارهابية مع كل اسلحتها ومعداتها الاميركية.

3 – وضع شعار الاطاحة بالأسد جانباً على رغم إصرار المعارضة السورية عليه، كونه لم يعد المشكلة الاساسية لواشنطن، خصوصا انّ إسقاط الأسد عبر الاستيلاء على دمشق اضحى هدفاً غير واقعي.

4 – التعاون والتفاهم مع روسيا التي باتت تمسك بمفاصل اللعبة في سوريا والتي تدرك في آن معاً استحالة المحافظة على نفوذها من دون التفاهم الكامل مع واشنطن. وفيما تطمح موسكو لأن تكون الوكيل الحصري الوحيد في سوريا والمنطقة تحت مظلة التفاهم مع واشنطن، فإنّ الادارة الاميركية باشرت وضع استراتيجية جديدة في الشرق الاوسط هي ما تمخّض عن لقاء ترامب ـ بوتين.

لكن هذا التفاهم في العمق يستوجب تناقضاً في العلن وفي المواقف الاعلامية والسياسية لمتطلبات لها علاقة بالاوضاع الداخلية، خصوصاً في الولايات المتحدة الاميركية.

فقريباً ستبدأ واشنطن حملة اعلامية تجاه «حزب الله»، والرئيس سعد الحريري قد يسمع شيئاً من ذلك خلال زيارته الراهنة لواشنطن. وقد يترافق ذلك مع ضغوط مالية ومصرفية هي في حقيقة الامر تصيب «حزب الله» في الجوهر، لكن الأهم ما سيظهر من ضغوط خليجية من خلال اللائحة السوداء، وهو ما يعني رفع مستوى النزاع السعودي – الايراني عبر الساحة اللبنانية هذه المرة.

و هذه المواجهات التي ستعيد تكريس لبنان ساحة مواجهة بين ايران والسعودية ستؤدي حكماً الى اندفاع بعض الاطراف المحلية لخوض مواجهات رتّبها الاطراف الدوليون في اطار توازن القوى بين «الهلال الشيعي» و«الخليج العربي».

وهو ما يعني ايضاً وضع ملف النازحين السوريين جانباً وسط ما يُحكى عن رفض خليجي لأي عودة للسوريين الآن، ربّما لاستخدام المخميات في الضغوط على «حزب الله» لاحقاً.