IMLebanon

قناة «الجديد»: عندما تتراجع المهنة امام البزنس والسياسة

بين 2006 و2016، وما بينهما اندلاع «الثورات» في العالم العربي، كانت صورة تلفزيون «الجديد» عرضة للتضارب. امتحنت الشاشة نفسها قبل أن يمتحِنها الآخرون، فوقعت في شرك تبايناتها: قناة المقاومة في لبنان، ضد محور المقاومة في سوريا واليمن. حُكماً لم تختلِط الأمور على الشاشة التي تنبع توجّهاتها من مصالح مُلّاكها، إضافة بطبيعة الحال إلى اقتناعاتهم السياسية.

وهذه مصالح يُشلّ أمامها المُشاهد، كما المُقدّم والمخرج والمذيع والمراسل والطاقم التحريري برمّته. وهي المصالح نفسها التي تسمح لتلفزيون يرفع لواء محاربة فساد النظام، أن يُهدي أحد أبرز رموز هذا النظام، في ليلة عيد الميلاد، حلقة ترويجية عن الجانب الشخصي في حياته تظهره شبه قديس. فالحلقة «المؤثرة» التي قدّمها رئيس الحكومة سعد الحريري في برنامج «الأسبوع في ساعة»، والإخراج «المبكّل» الذي أمّنته المحطّة لتحقيق المُبتغى، شكّلا مثالاً جيداً آخر على أن حفظ الأعمال التجارية لأصحاب القناة مهمّة شاقة، تضطرهم في كثير من الأحيان إلى قولبة تموضعهم، وفق ما يخدم مصالحهم.

بين الحلقة، وقبلها اللقاء الذي جمع مسؤولي المحطة برئيس الحكومة، خرجت معلومات وتحليلات كثيرة تحدثت عن أسباب انفتاح «الجديد» على الحريري والعكس. بعضها يتعلق بأعمال تجارية لعائلة خياط، وبعضها بأسباب سياسية ترتبط بتنظيم العلاقة مع السعودية. أما وأن القيّمين على القناة ينفون كل هذه الادعاءات، فيكفي عرض بعض النقاط التي تشير إلى استخدامهم المحطة، في أحيان كثيرة، منصّة للهجوم على من يقف ضد مصالحهم التجارية أو الدفاع عنه في حال أمّن لهم الحماية المطلوبة.

حال بري دون زيارة وزير ليبي لتوقيع مشاريع مع خياط فانفجرت الحرب في وجهه

لطالما مثّلت «الجديد» الخط الاعتراضي ضد الائتلاف الحاكم خلال مرحلة الوجود السوري في لبنان، مع حفاظها على علاقة قوية بالرئيس السابق إميل لحود، وخطّ المقاومة. وقد أخذت منحى أكثر صدامية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. غير أن اندلاع «الثورات» في العالم العربي وضعها أمام تحدّيات، انعكست بلبلة وارتباكاً في موقفها، وصعوبة في تحديد حقيقة موقفها واستراتيجيتها. تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة، منها سياسي وآخر مهني. لكن أحد أبرز الأسباب الذي يصعب تجاهله، يكمن في تداخل المصالح الاقتصادية والتجارية بين العائلة المالكة للمحطة والخيار المهني للقناة. فمالك المحطة السيد تحسين خياط، مثله مثل كثيرين، تعرّض عمله التجاري التقليدي في مجال طباعة الكتب وترويجها لتراجع كبير. جزء من هذا التراجع يعود إلى الثورة الرقمية، وجزء آخر ــ وهو الأساس ــ مرتبط بعدم تجديد العقود مع شركته في عدد من الدول العربية نتيجة حسابات سياسية.

البداية كانت من سوريا التي فضّلت تجيير عقود طباعة كتب مدرسية لمصلحة تاجر محلّي. أثار الأمر غضب خيّاط، خصوصاً أنه كان قد تلقّى وعوداً من مسؤولين سوريين بابرام العقد. انعكس الغضب على أسلوب تغطية القناة للأحداث في سوريا، فصارت تلجأ أكثر إلى معلومات وفيديوات مصدرها المعارضة. بعد سوريا، أدى التغيير الكبير في ليبيا إلى عرقلة تجارة خياط في هذا البلد، علماً بأنه سعى خلال السنوات الماضية إلى ترتيب علاقاته مع القيادة الجديدة، وصولاً إلى إعادة تنظيم مشروع اتفاق بينه وبين وزارة التربية الليبية، تتولى بموجبه شركته طباعة كتب مدرسية وتوزيعها. ويوم قرّر الليبيون توقيع الاتفاق، وضعوا ما يُشبه شرطاً لتنفيذه، يقضي بأن يتولّى خيّاط «تطبيع» العلاقات المقطوعة بين لبنان وليبيا بسبب قضية الإمام موسى الصدر ورفيقيه، إذ طلب وزير التربية الليبي توقيع الاتفاقية في لبنان، على أن يأتي إليه في زيارة رسمية يلتقي خلالها نظيره اللبناني الوزير الياس بو صعب، إضافة إلى لقاءات رسمية. أقنع خياط بو صعب بتوجيه الدعوة الى الوزير الليبي. ولكن ما ان وصل الأمر الى الرئيس نبيه برّي حتى أرسل من يلفت انتباه مالك قناة «الجديد» إلى أن الزائر الليبي غير مرحّب به، وإلى أن من الصعب إعادة العلاقات بين الدولتين ما دامت قضية الإمام الصدر لم تعالج بعد. وفيما نبّه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم خياط الى أنه يستحسن عدم حصول الزيارة خشية حصول اضطرابات، بقي الأخير مصرّاً على موقفه، ما أدى إلى منع الوزير من دخول الأراضي اللبنانية. رداً على ذلك، شنّت المحطة هجوماً على الرئيس برّي، وفتحت حملة ضد بعض المؤسسات والوزارات التي يتولاها مقربون منه.

ورغم أن بعض القضايا التي تناولتها «الجديد» محقّة، لكن كان واضحاً أن ما تقوم به هو مجرد احتجاج على تعطيل الصفقة.

في هذه الأثناء، فوجئ خياط بإلغاء عقود تجارية له في المملكة العربية السعودية، بالتزامن مع تراجع العقود الكبيرة في دولة الإمارات، واستبعاد أحد أبرز مديريه هناك. حاول إبرام عقود في العراق تعوّض خسائره، بالتزامن مع دخوله إلى مجالات استثمار جديدة خارج الإطار التقليدي، من خلال أنشطة تجارية في العراق وكردستان، أهمها الانتقال إلى العمل في قطاع الكهرباء. ومن هذا الباب، أيضاً، برز عامل آخر عزّز الخلاف مع برّي، بعد إنشاء كريم تحسين خياط شركة تعمل في قطاع الكهرباء، وحصولها على مناقصة داخل لبنان، لم تدخل حيّز التنفيذ بسبب عدم مصادقة وزارة المال على بعض قرارات دفع المستحقات، ما اعتبره خياط حرباً من برّي استدعت رفع سقف الهجوم عليه.

مع إقفال الباب تلو الآخر في وجه مصالح خياط التجارية، سعى إلى إعادة تنظيم علاقاته بالدول الخليجية، لا سيما الإمارات والسعودية. وهنا، ظهر موقف لافت لقناة «الجديد» من تغطية حرب اليمن. فللمرة الأولى، أخذت المحطّة جانباً بدا متناقضاً مع محور المقاومة، وصل إلى حدّ امتناعها عن بثّ أحد خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (في مهرجان التضامن مع الشعب اليمني يوم 17 نيسان 2015)، بعدما هاجمته في مقدمة إحدى نشراتها واتهمته بالتحريض الطائفي وبالتوتر وتنفيذ السياسة الإيرانية (28 آذار 2015). وقد تولّى متابعة الاتصالات مع السعودية أحد رجال الأعمال العاملين مع خياط ويُدعى رضا إسماعيل الذي تربطه صداقة مع كل من تعاقبوا على السفارة السعودية في لبنان. سمح التواصل الذي أمّنه إسماعيل باستئناف العلاقة بين السفارة وخياط، وأثمر زيارة للأخير إلى المملكة من باب المشاركة في معرض الكتاب في جدّة. وترجم تصحيح العلاقة بإطلالات متعدّدة للسفير السعودي السابق علي عواض العسيري على شاشة القناة. وتطوّر الأمر إلى ترتيب لقاء مع الموفد السعودي تامر السبهان الذي زار لبنان أخيراً، فخرج خياط بعد اللقاء ليقول إن الجانب السعودي أثار معه لعب دور سياسي، باعتبار أنه من الشخصيات السنيّة الوازنة، إذ إن المملكة تسعى إلى تنظيم علاقاتها مع مختلف القيادات السنية. في الإطار ذاته، حصلت محاولة لترتيب لقاء آخر مع أمير منطقة مكة خالد الفيصل الذي زار بيروت لتنهئة الرئيس ميشال عون بانتخابه، إلا أن اللقاء لم يحصل بعدما اعتذر المسؤول السعودي بسبب ضيق الوقت.

جهود خياط لم تتوقف عند هذا الحد، إذ كان دائم البحث عن مصادر دعم سياسية في الداخل. حين عاد النائب عقاب صقر إلى بيروت، بادرت الإعلامية بولا يعقوبيان إلى إقامة مأدبة عشاء على شرفه، حضرها إعلاميون وإعلاميات من أصدقاء نائب زحلة، من بينهم مديرة الاخبار في قناة الجديد الزميلة مريم البسام. طلب صقر أن يكون اللقاء حيث يقيم حالياً في منزل الرئيس الحريري في وادي أبو جميل، نظراً إلى ظروفه الأمنية الحساسة. ولأن العاملين في مديرية الأخبار في «الجديد» ظلوا على علاقة حسنة وتواصل دائم مع صقر طوال فترة وجوده خارج البلاد، كان للمحطة حصّة من الدعوة. غير أن نائبة رئيس مجلس إدارة المحطة، كرمى خياط، اعتذرت عن عدم تلبيتها، خشية مصادفة الحريري، وحصول أي مواجهة علماً بأن الحريري دخل على الحاضرين وكان لطيفاً، بحسب مصادر اللقاء، رغم تبادله نكات لا تخلو من الرسائل بينه وبين البسام. خلال اللقاء طلبت البسام من الحريري تسجيل مقابلة صغيرة معه، على أن ترِد كفقرة ضمن برنامج الزميل جورج صليبي. لم تلقَ الدعوة أيّ اعتراض من قبل رئيس الحكومة الذي ذكّر صقر بأنه وعد يعقوبيان بتسجيل حلقة في برنامجها، خصوصاً أن النائب صقر (الذي بات أحد أهم الأذرع الإعلامية السياسية للحريري) هو من تولّى إقناعه بالقبول. بعد العشاء، تواصلت كرمى خياط مع صقر لتبرير عدم تلبيتها الدعوة. غير أن الأخير أكد عدم ممانعة الحريري لقاءها، ورتّب على هذا الأساس «قعدة» جمعت بينهما بحضور شقيقها كريم. خلال الجلسة، تمّ الاتفاق على تحويل الفقرة إلى حلقة كاملة غير سياسية، انتهت بالعرض الذي قدمه الرئيس الحريري. وبالمناسبة كان عرضاً ناجحاً، إذ جرى تقديمه بصورة مختلفة عبر شاشة تقدّم نفسها كخصم لآل الحريري، ويحضرها جمهور واسع مناهض له. والدليل أن معظم التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أشادت بشخصية الحريري الإنسانية بغض النظر عن مواقفه السياسية، حتى من قبل الذين يقفون ضده. بعد اللقاء خرجت معلومات تتحدث عن أن كريم خياط أثار خلال الجلسة موضوع الكهرباء الذي يقف الرئيس برّي حجر عثرة أمام تنفيذه، فوعده الحريري بالمساعدة، وتحدّث مع رئيس الحكومة السابق تمّام سلام للبحث عن آلية تسمح لشركة كريم خياط بأن تباشر عملها، على أن يجري دفع الأموال المستحقة لها في ما بعد.

«هي ليست المرّة الأولى التي نعمد فيها إلى عرض حلقات تحمل جوانب إنسانية»، بحسب ما تقول كرمى خياط. نافية كل تحليلات وخلفيات اخرى. واوضحت لـ«الأخبار» أن «اللقاء مع الرئيس الحريري كان تعارفياً بالدرجة الأولى، لم يتمّ خلاله التطرق إلى ملف الكهرباء». أما الحلقة التي عرضت فهي «تدخل ضمن نطاق عملنا كصحافيين». الرواية المضادة عند خياط تقول إن «الجديد، ومنذ سنوات، ابتعدت عن عرض أي برامج سياسية في فترة الأعياد، وكان من ضمن البرنامج الذي وضعته القناة في ليلة الميلاد إعداد تقارير مع شخصيات سياسية يضاء فيها على جوانب إنسانية». وكان الرئيس الحريري «من ضمن الشخصيات التي طلبنا إجراء مقابلة معه ووافق. وبعد أن كان الاتفاق يقضي بتصوير فقرة معه تظهر في برنامج «الأسبوع في ساعة»، حوّلنا الفقرة إلى حلقة كاملة، خصوصاً أن الضجة التي يمكن أن تثيرها مقابلة من هذا النوع مع رئيس حكومة، ستكون أكبر بكثير من أي فقرة مع نائب أو وزير، علماً بأننا طلبنا ذلك من شخصيات أخرى». ليس الهدف بحسب خياط «التسويق للرئيس الحريري، فنحن طلبنا أيضاً مقابلة سياسية، لكنه فضّل الحلقة التي عرضت في عيد الميلاد، لأنه كان قد قدم حلقة قبل وقت قصير مع الزميل مارسيل غانم».

تفصل خياط بين الحلقة واللقاء وخلاف القناة مع الطبقة السياسية. تقول «نستطيع أن نلتقي الحريري عشر مرات، مع ذلك لن نتوانى عن فضح أي ملف فساد في الدولة يرتبط به أو بتياره، وهذا لن يغيّر خط قناة الجديد في شيء». في المقابل تفصل خياط الرئيس الحريري عن الائتلاف الذي كان حاكماً قبل عام 2005، فهو «لم يترأس حكومة سوى لمرة واحدة»، ونحن «سنقف ضده في حال أخطأ، كما أيّدنا موقفه حين رشّح العماد ميشال عون إلى الرئاسة، خصوصاً أنه أحد أركان العهد الجديد، الذي نجد أنفسنا معنيين بالإضاءة على إخفاقاته كما إنجازاته، من ضمن دورنا كقناة تحارب الفساد». وترفض خياط كل كلام عن كون التهدئة مع الحريري نتيجة لتمنٍّ سعوديّ على «الشخصيات السنية» بمنح رئيس تيار المستقبل فرصة إثر عودته إلى الحكم، معترضة على إدراج القناة في هذه الخانة الطائفية.

غير أن في تيار «المستقبل» رواية أخرى يغلب عليها الطابع السياسي. مصادر بارزة في التيار تؤكّد أن «العلاقة المستجدة بين الرئيس الحريري وقناة الجديد تعود إلى قرار الرجل الانفتاح على الجميع، كونه أصبح رئيساً للحكومة». وتربط هذه العلاقة «بطلب سعودي بعدم الهجوم على الحريري وإعطائه فرصة جديدة خلال العهد الجديد». وربطت المصادر تنظيم هذه العلاقة «بمحاولة قناة الجديد إعادة علاقتها مع السعودية الى سابق عهدها»، مؤكّدة أن «النائب عقاب صقر هو من لعب دوراً أساسياً في إقناع الرئيس الحريري بفائدة هذه العلاقة». أما في ما يتعلق بلجوء آل خياط إلى الرئيس الحريري، كونه صاحب سلطة، في ظل علاقتهم المتأزمة مع رئيس المجلس نتيجة عرقلته مشروع الكهرباء، فلم تؤكّد المصادر تعهّد الحريري بمساعدتهم… لكنها لم تنفه أيضاً!

«مع مقاومة اسرائيل وعلاقتنا بقطر ثابتة»

مثلها مثل باقي المحطات ووسائل الإعلام، واجهت قناة «الجديد» مشكلات دفعت بها إلى الاستغناء عن بعض العاملين فيها. فيما كان لافتاً أنها لم تمانع استقالة بعض الزملاء الذين ذهب معظمهم إلى قنوات مناوئة لها كالـ«أم تي في» و«أل بي سي»، في مقابل تغييرات حصلت في هيكيلة مديرية الأخبار لم تُعالج مشكلة التموضع السياسي المتأرجح، ما وضعها موضع التباس أثّر دون شك على علاقتها بجمهور المقاومة، علماً بأنها تسعى إلى بناء علاقة جيدة مع الرئيس ميشال عون. تؤكّد خياط أن «ما يحكى عن العلاقة بجمهور المقاومة مضخّم». بحسب الإحصاءات «نحن لا نزال نشاهد من قبل شريحة كبيرة من هذا الجمهور»، لكن الفرق بيننا وبين القنوات الأخرى «أننا لسنا مؤدلجين. نحن قناة مقاومة ضد إسرائيل، فثقافة المقاومة متجذرة في العائلة والقناة. مع ذلك نحن محطّة تحارب الفساد من أي جهة أتى». تعود خياط إلى «تأثر أعمال العائلة في عدد من الدول لأنها أعلنت مواقف جريئة في بعض القضايا، ولم يدفعنا ذلك إلى تغيير موقفنا»، مشيرة إلى أن «الموقف الذي اتخذناه من الحرب في اليمن هو لأننا وجدنا أنفسنا أمام تشنج كبير، في حين تقف المنطقة على شفير الهاوية. نحن هنا لسنا في حالة حرب مع إسرائيل لنأخذ طرفاً. الحال هنا مختلفة، وكانت لدينا مآخذ على الطرفين وعبرنا عن ذلك بوضوح». في المقابل، تشدّد على «متانة العلاقة مع دولة قطر، رغم تعرضها لبعض الاهتزازات»، و«لم نخجل يوماً من الإعلان عنها، وهناك مساهمون قطريون في المحطة، والعلاقة عمرها نحو 40 عاماً».