IMLebanon

«صرخة» رياض الصلح… إنتفاضة عابرة أو بداية ثورة شعبية؟

نجَحت المعارضة أمس في إظهار حجم شعبيّ رافض لزيادة الضرائب والإستمرار في السياسات الإقتصادية التي قدّ تؤدّي الى إنهيار قريب، لكنّ الإشكالات الأمنية التي افتعلها شبّان بعضهم ملثّم حاولت التخفّيف من وهجها، ما دفع بعض الأحزاب المشاركة إلى الانسحاب قبل أن يعود الهدوء إلى ساحة رياض الصلح وتنتهي المظاهرة، لتُحدّد حملات الحراك موعداً جديداً يوم الأربعاء.

على رغم الشعارات المنادية بالثورة، و«الشعب يريد إسقاط النظام»، والحذر من تطوّر الحراك الشعبي نحو العنف مثلما حصل سابقاً، وتسجيل حالات من التدافع ومحاولات إثارة الشغب ورمي المفرقعات النارية في إتجاه القوى الأمنية، ملأ المتظاهرون ساحة رياض الصلح حيث بدأوا بالتوافد منذ الحادية عشرة قبل الظهر حاملين الأعلام اللبنانية ويافطاتٍ كتبوا عليها مطالبَهم المتشعّبة.

أولاد، شبان، مقعدون، كبار السنّ، من كل المناطق أتوا الى الساحة، وفي نفوسهم خوف من صمّ السلطة آذانها عن سماع صوتهم، لكنّ خوفهم الثاني والأهمّ هو حرف بعض السياسيين تظاهرتهم عن هدفها وإستغلالها وإدخالها في لعبة أهل السلطة، وإثارة الشغب، خصوصاً مع انتشار عدد من الشبان المقنّعين في الساحة.

وتزامناً مع بدء توافد الحشود، تعزّزت الإجراءات الأمنية في محيط السراي الحكومي ومجلس النواب، وعندما إقتربت مجموعة من الشبان من العارضات الحديدية، إستنفر الأمن، لكن سرعان ما حضر المنظمون ووقفوا أمام العارضات مانعين أحداً من القيام بأعمال شغب وإستفزاز القوى الأمنية، فيما إستمرّت محاولات خرق التعزيزات الأمنية حتى نهاية التظاهرة.

لم تتعَب ساحة رياض الصلح من أصوات الشعب المطالب بأبسط حقوقه في بلد إرتبط إسمُه بالحرمان والفوضى وحتى الحروب المتواصلة. ويُعرف عن الشعب اللبناني أنّه «يتجيّش» بسرعة من أجل مطالب سياسية، وقضايا تتخطّى حدود الجغرافيا الصغيرة لتصل الى «الأممية» والعروبة والقوميّة على إختلاف انواعها.

لكن منذ آب 2015 ونتيجة أزمة النفايات التي غمَرت شوارعنا بات هناك شبه وعي، وهو في طور النمو، يطاول المطالب المعيشية والحياتية التي لا ترحَم لبنانياً مهما كان دينه أو مذهبه، أو إنتماؤه السياسي والمناطقي.

قبل الحرب، كان الشارع يتحرّك للمطالبة بحقوق معيشية محصورة بفئات معيّنة، وعماد تلك التحركات الهيئات المطلبية والأحزاب اليسارية، حيث لبس بعضها الرداءَ المطلبي، لكنه كان يهدف الى إسقاط النظام.

والمفارقة اليوم، وفيما يستعد لبنان لإحياء الذكرى الـ42 لإندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان، تجتمع أهم الأحزاب التي شاركت في تلك الحرب في ساحة واحدة تحت شعار رفض فرض الضرائب ومكافحة الفساد وإقرار السلسلة وتمويلها من خلال وقف السرقات ومزاريب الهدر.

جمعت ساحة رياض الصلح أمس رموز اليمين واليسار اللبنانيين، اليسار الذي شكّل الحزب الشيوعي اللبناني والحزب التقدمي الاشتراكي أحد أهم أعمدته، والذي قاتل مع الفلسطيني تحت شعار تحرير فلسطين وإلغاء النظام الطائفي، فيما اليمين الذي تظاهر ممثلاً بحزبي الكتائب و«الوطنيين الأحرار» فقد دافع بشراسة من أجل عدم جعل لبنان بلداً بديلاً للفلسطينيين. في وقت حاولت منظمات الحراك المدني التي تظاهرت منذ آب 2015 تعويم نفسها بعدما فقدت جزءاً كبيراً من صدقيّتها بسبب إنجرارها نحو العنف.

لا يختلف أحدٌ ممّن شاركوا في تظاهرة رياض الصلح على أنّ الأزمات المطلبية توحّد اللبنانيين، لذلك، تمنّى البعض لو أنّ أحزاب اليمين واليسار إتفقت قبل الحرب على رغم الأسباب الخارجية، لكانت وفّرت على اللبنانيين حروباً دمّرت البلد وقسّمته مذهبياً وطائفياً وأدّت الى الفساد الذي نعيشه الآن.

  العلم اللبناني جمع كلّ متظاهر لوّعته الضرائب وكسره غلاء المعيشة وخسر أولاده الذين هاجروا بسبب إنعدام فرص العمل، فكان تمثال رياض الصلح الشاهدَ الأكبر على صرخات المواطنين الذين يطالبون بسلسلة الرتب والرواتب ويرفضون الضرائب المجحفة. حتى ذهب البعض الى القول «ليت» رياض الصلح ما زال حيّاً ليشاهد إنحدار البلاد نحو مستويات غير مقبولة من التفقير والفساد والهدر ونهب المال العام.

شبه إنتفاضة تحذيريّة نفّذها اللبنانيون أمس، حيث لم تبقَ سوى الساحات أمامهم للتعبير عن رأيهم، خصوصاً أنّ الإنتخابات النيابية تواجه مصير التمديد والتأجيل مرّة أخرى، وكأنّ قدر اللبناني أن يبقى خاضعاً لسلطة تمدّد لنفسها. فيما تخوّف البعض من إستغلال النقمة الشعبية للقول إنه لا يمكن إجراء الإنتخابات بهذه الظروف الصعبة.

وأمام هذا المشهد الشعبي، إختار رئيس الحكومة سعد الحريري التوجّه إلى ساحة رياض الصلح مخاطباً الجماهير: «نحن هنا وعدناكم بأن نكون واضحين معكم، وإن شاء الله سترون أنّ هذه الحكومة مع فخامة الرئيس ستكون دائماً إلى جانبكم وإلى جانب الناس ووجع الناس».

وأضاف: «صحيح أنّ هناك هدراً في البلد وصحيح أنّ هناك فساداً، ولكننا سنُحارب هذا الفساد، وأنا أحببت أن آتي إليكم لأقول لكم إننا سنُنهي إن شاء الله هذا النوع من الفساد وسنوقف الهدر، وسنكمل المسيرة معكم». وختم: «نحن أتينا بثقة الناس، وسنُكمل هذا المشوار، وهذا المشوار سيكون طويلاً، وسنتابع محاولة وقف الهدر والفساد».

ولكن وفيما كان الحريري يلقي كلمته، رشقه المتظاهرون بالعصي و«قناني» المياه، فما كان منه إلّا أن ترك الساحة سيراً متوجِّهاً الى السراي الحكومي. لتشتعل بعدها مواجهات بين عدد من المتظاهرين الذين نجحوا في إزالة الحواجز الحديد، والقوى الأمنية، لتتدخّل قوّة مكافحة الشغب، في وقت انسحبت أحزاب الكتائب و«الأحرار» و«التقدّمي الإشتراكي» من الساحة، مؤكدة وقوفها الدائم الى جانب مطالب الشعب المحقة.

على رغم الإشكالات الأمنية، عكست ساحة رياض الصلح مشهد لبنان الناقم، وحتّى لبنان المنقسم على ذاته والمتشعّب المطالب: أساتذة تظاهروا مطالبين بالسلسلة، ومواطنون تظاهروا رفضاً للضرائب ودعماً للسلسلة، وآخرون عبّروا عن إمتعاضهم من أن تنهض السلسلة لاحقاً ويُعاد فرض الضرائب، فرفضوا الإثنين معاً.

محازبون من «الشيوعي» وحركات اليسار طالبوا بإسقاط النظام السياسي والطائفي، وآخرون من الكتائب و»الأحرار» والمجتمع المدني أصرّوا على الإصلاح الإقتصادي من دون المَسّ بتركيبة النظام. مواطنون شكوا من التّجار والغلاء الفاحش، والمفارقة أنّ تجّاراً نزلوا الى الساحة يشكون من المزاحمة الأجنبية عموماً والسورية خصوصاً.

في الميزان الشعبي، نجح المتظاهرون في قول كلمتهم بصوتٍ عالٍ متخطين كلّ الحواجز، فيما شكّل الشغب عنوان نهاية التظاهرة، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تشكيل جبهة معارضة موحّدة للأحزاب المتناقضة التي اجتمعت، خصوصاً أنّ النزاع الايديولوجي بينها مستمرّ، ولكل حزب حساباته السياسية؟

فهل تنتهي هذه الحركة وتخمد بمجرّد وعد الحكومة بعدم زيادة الضرائب ودعوة الحريري منظّمي التظاهرة إلى تشكيل لجنة ترفع مطالبهم لمناقشتها بروح إيجابية، أمّ إنها الشرارة التي قدّ تشعل ثورة اجتماعية جديدة؟

ومَن سيشارك في التظاهرات المقبلة بعدما رأى أعمال الشغب أمس، وهذه الأعمال بالذات قضت على انتفاضة الحراك المدني سابقاً؟ وماذا عن شعار إسقاط الحكومة الذي يبدو صعباً لأنّ معظم القوى السياسية الكبرى ممثّلة فيها؟