IMLebanon

كلام في السياسة | 5 شباط تاريخ سقوط الدَّجَلَين

بإمكان قضية جوليان أسانج أن تكتسب شيئاً من اللحظة التاريخية، أو من مفاصل التأريخ ومحطاته. ولفهم ذلك، لا بد من بعض التفصيل حول العقل الأميركي ووجدان نظامه، كما حول ما حصل مع صاحب ويكيليكس وبطل أسرارها وأسيرها.

لا شك أن عناصر قوة كثيرة تشكل موقع أميركا في العالم عبر التاريخ والحاضر. حتى اليوم، ورغم كل الكلام عن تراجع واشنطن وعن تفسخ نظام أحاديتها القطبية، ورغم كل الإرهاصات حول بزوغ فجر النظام الكوني الجديد المتعدد القطبية، كما حول تراجع مفاهيم وسيطرة أخرى جديدة… رغم كل شيء، تظل أميركا سيدة للعالم، بحسب مؤشرات رقمية كثيرة. عسكرياً مثلاً، لا تزال واشنطن صاحبة الجيش الأقوى على وجه الأرض. وبفوارق كبيرة عن أقرب الجيوش الأخرى مرتبة ومنافسة. تكفي بضعة أرقام معبرة وذات دلالات بالغة: أكثر من 13500 طائرة حربية أميركية. فيما الجيش الروسي ثانياً بنحو ثلاثة آلاف طائرة فقط. عشر حاملات للطائرات الأميركية في بحار الأرض ومحيطاتها، أي ما يوازي مجموع عدد الحاملات للجيوش الأربعين الأولى في العالم. فضلاً عن فارق الإنفاق العسكري بين أميركا وباقي منافسيها. 577 مليار دولار سنة 2015، مقابل 60 ملياراً فقط للجيش الروسي، و145 ملياراً تنفقها الصين الصاعدة عسكرياً على جيشها.

اقتصادياً، لا تزال السيطرة الأميركية واضحة وفق أرقام المؤسسات الدولية المختصة. مع ناتج وطني للعام 2014 بنحو 17500 مليار دولار. فيما الصين ثانية مع نحو 10350 ملياراً (بحسب سعر الصرف الرسمي، ووصل الناتج الصيني إلى نحو 18090 مليار دولار، بحسب القوة الشرائية)، ليصير الفارق شاسعاً جداً حيال الاقتصادات الأخرى، من اليابان الثالثة بنحو 4600 مليار إلى روسيا العاشرة مع نحو 1869 ملياراً فقط.

سياسياً، يكفي أن نذكر أن واشطن هي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك 176 سفارة في 176 بلداً على وجه الأرض. تضاف إليها عشرات القنصليات والهيئات التمثيلية الدبلوماسية الأميركية الأخرى، فضلاً عن مؤشرات رقمية عدة، في الإعلام والإنترنت وثورة الاتصالات ومركزية الدولار وعناصر كثيرة لا تزال تشكل بنيان التفوق الأميركي على بلدان كوكبنا ودوله وشعوبه.

غير أن واشنطن كانت دوماً حريصة على مسألتين اثنتين: أنها ضابط أخلاق نظامنا الدولي، وقاضي حقوقه.

في ادعاء مونوبول الأخلاق أولاً، رغم كل ما كتب وعرف وسرب عن ارتكابات. من مصدق في طهران إلى ألليندي في سنتياغو تشيلي. ومن فييتنام إلى نيكاراغوا. ومن أشرطة تجسس جاي إدغار هوفر إلى استقالة دايفيد بترايوس. ومن مارلين مونرو إلى مونيكا لوينسكي، ظل القادة الأميركيون يحرصون أشد الحرص على تصوير بلادهم وتقديمها على أنها مستودع الأخلاق في السياسة والشأن العام. مفارقة صارخة حيناً. أو دعابة سمجة أحياناً. لكنها ظلت ثابتة في خطاب كل رئيس وفي برنامج كل مرشح وفي مذكرات كل متقاعد، أن يكون التنظير الأخلاقي لموقع تلك «الأمة العظيمة» ودورها على أرضها وعلى وجه الأرض.

كذلك في مسألة دور قاضي قضاة الأرض، كانت واشنطن ولا تزال تتصرف على أنها قوس عدالة كوكبنا. فالقضاء الأميركي هو من القضاءات القليلة في العالم، الذي يمنح نفسه صلاحية دولية شاملة. لا يحكم قضاة أميركا على الأراضي الشاسعة لبلادهم وحسب، بل على كل العالم. يصدرون أحكاماً صالحة للتنفيذ على سطح الكوكب برمته. يقطعون مذكرات توقيف لضابطة عدلية أميركية عابرة لكل الحدود والسيادات. حتى إنه في عهد بوش، حصل نقاش تشريعي وحكومي صريح حول الحق في إصدار أحكام الإعدام حول العالم. تماماً كما في مسألة السجون السرية والتوقيفات غير المعلنة. حتى قبل قانون «باتريوت آكت» الشهير.

حتى إنه عندما أقر نظام روما الذي أنشأ محكمة الجزاء الدولية، ظلت واشنطن خارجه. واجهته وحاربته ومارست كل الضغوط على الدول المنضمة إليه. إلى أن توصلت إلى تسوية مع أعضائه، تلزم بموجبها كل حكومة متعاونة مع القضاء الجنائي الدولي المستحدث، أن تقر لواشنطن بموجب اتفاقية جانبية أن تستثني من أحكام نظام روما أي مواطن أميركي ملاحق من قبل تلك المحكمة. لمجرد أن أميركا هي قاضي قضاة الأرض. فلا قاضي سواها يقاضي أي أميركي. حتى ولو كانت تهمته من تلك المشمولة بصلاحية نظام روما: جريمة حرب إو إبادة أو ضد الإنسانية.

فجأة، جاء شاب اسمه جوليان أسانج، بأدوات أميركية بامتياز. لوحة مفاتيح وشبكة إنترنت وشاشة حاسوب… والحقيقة التي تحرر. كما تكتب وكالة المخابرات الأميركية على باب مقرها الرئيسي في لانغلي. فأطاح الاحتياطيين الفدراليين الأميركيين الأكثر عزة والأغلى ثمناً: أخلاق سياسة واشنطن وعالمية قضائها. فجأة، ظهرت أميركا كما هي. كتبة تقارير وتلاعب بحكومات الأرض وسيادات دولها وإرادات شعوبها. فكان طبييعاً أن يتحول الرجل إلى «عدو الدولة الأول». تجندت لملاحقته كل أدوات القضاء الأميركي، من السويد إلى بريطانيا. حتى صدر حكم أممي أعلى ومبرم، أن الرجل محتجز تعسفاً. قرار الأمم المتحدة أمس لم يقض ببراءة رجل وحسب، بل قضى في الأساس بأن أخلاق واشنطن في السياسة، وممارسة قضائها عبر العالم، بواسطة قضاتها، كما بواسطة قضاة أجرامها، هما المدانان بالجرم المشهود. قد يكتب التاريخ أن 11 أيلول 2001 كان يوم سقوط برجين أميركيين. وأن 5 شباط 2016 كان يوم سقوط دَجَلَين اثنين في البلد نفسه.