IMLebanon

جعجع بين ٤١١٤ يوماً في المعتقل و٤١١٤ يوماً في الحرّية

 

بين ٢١ نيسان ١٩٩٤ تاريخ اعتقال الدكتور سمير جعجع، و٢٦ تموز ٢٠٠٥ تاريخ خروجه من المعتقل، هناك ٤١١٤ يوماً. وبين ٢٦ تموز ٢٠٠٥ و٣١ تشرين الأول ٢٠١٦، الذي يصادف يوم الاثنين المقبل، هناك ٤١١٤ يوماً أيضاً بالتمام والكمال.

دفعتني هذه المصادفة التاريخية برمزيّتها الكبرى إلى التوقّف مليّاً أمام أبعادها ومعانيها ومحاولة استخراج العبَر والدروس منها من خلال إجراء جردة ولو سريعة لأبرز المحطات في الـ ٤١١٤ يوماً في المعتقل والـ٤١١٤ يوماً في الحرية، وبالتالي تسليط الضوء على خط الحكيم السياسي الذي بقيَ هو هو ما قبل المعتقل وإبّانه وبعده.

فأين أوجه الشبه والاختلاف بين المرحلتين، مرحلة الاعتقال ومرحلة الحرية؟ وماذا حقق الحكيم في هاتين الحقبتين؟ وما العناوين الكبرى لأهدافه ومشروعه السياسي؟

قلة من الشخصيات في التاريخ حافظت على خطها السياسي في كلّ المراحل والحقبات، ولم تتأثر بمدّ الحياة السياسية وجزرها، ومن بين تلك الشخصيات سمير جعجع الذي حافظ على مبادئه وثوابته على رغم تقلبات الظروف والأوضاع التي وصلت إلى حدّ اعتقاله بجريمة الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله ودستوره وحرية شعبه.

ولكنّ المفارقة أنّ جعجع أدار معركته الوطنية من زنزانته كما أدارها سابقاً من القطّارة او المجلس الحربي او غدراس، وأخيراً من معراب. فلا يتأثر بضغوط اللحظة والمكان والظرف، الأمر الذي جعل مواقفه ويجعلها باستمرار مبنيّة على المصلحة الوطنية فقط لا غير.

ولعلّ أبرز المحطات التي تصدرت الـ ٤١١٤ يوماً في المعتقل تكمن في الآتي:

أولاً، رفض الاستسلام والإعلان بوضوح أنّ الاعتقال لا يعني الخضوع إنما محاولة لإخضاع فئة معيّنة لم تمرّ ولن تمرّ، وهذا الموقف بالذات أدّى إلى إطلاق الحكيم المقاومة السلمية للأمر الواقع القائم من زنزانته، هذه المقاومة التي كانت كفيلة بتحريك المياه الراكدة في المجتمع، وأدت إلى تهيئة المناخات الداخلية للمواجهة وفتحت الطريق أمام معارضة بدأت مسيحية وتحوّلت وطنية.

ثانياً، الوقوف خلف الكنيسة وتحديداً البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير الذي استند في مواجهته مع نظام الوصاية الى النقمة الشعبية من الوضع السياسي القائم التي وَفّرتها «القوات»، الأمر الذي حوّل الكنيسة وصفير في الطليعة إلى رأس حربة المواجهة السيادية ضد نظام الوصاية، فيما شكّلت «القوات» حالة من التكامل مع بكركي ولّدت تعبئة مسيحية وطنية مهّدت لتنظيم هذه الحالة ومأسستها.

ثالثاً، أدّت «القوات» دوراً مركزياً وأساسياً في تأسيس لقاء «قرنة شهوان» واستمراره، ونجحت عبر هذا اللقاء في نقل الهَمّ الوطني من الإطار القواتي إلى الإطار المسيحي، إذ في حين كان هدف النظام السوري عزل «القوات» داخل بيئتها، فَكّت «القوات» قيود هذا النظام مُوسّعة إطار المواجهة من الإطار القواتي إلى المسيحي.

رابعاً، ساهمت «القوات» في إنضاج ظروف مصالحة الجبل، ورافقت البطريرك صفير في كلّ جولاته في قرى وبلدات عاليه والشوف، وقد مهّدت هذه المصالحة لتوسيع مساحة الاعتراض ضد النظام السوري من الحيّز المسيحي إلى الوطني.

خامساً، كان لـ»القوات» دورٌ أساس في الوصول إلى لقاءات «البريستول» التي جمعت للمرة الأولى إلى جانب لقاء «قرنة شهوان» و«اللقاء الديموقراطي» ممثلين عن الرئيس رفيق الحريري، فضلاً عن «اليسار الديموقراطي»، الأمر الذي جعل المعارضة عابرة للطوائف، ما دفع النظام السوري إلى اغتيال الحريري بعد شعوره للمرة الأولى بتهديد جدي لوجوده في لبنان، لأنّ كلّ مبرّر استمراره كان التذرّع بالانقسام المسيحي-الإسلامي، وبالتالي وحدة المواقف الوطنية كانت كفيلة بإخراجه من لبنان.

سادساً، شكّلت «القوات» عصب ثورة الأرز والقوة المنظمة الأساسية التي ساهمت بإنجاح المشهد المليوني الذي أكد أنّ معظم اللبنانيين يقفون صفاً واحداً ضد الوجود السوري في لبنان، وأسّست ١٤ آذار لمرحلة وطنية جديدة بدأت مع خروج الجيش السوري في ٢٦ نيسان ٢٠٠٥ وتُوِّجت في ٢٦ تموز مع خروج الحكيم من المعتقل، وما بينهما الانتخابات النيابية التي نقلت السلطة من أكثرية غير سيادية إلى أكثرية سيادية.

وفي هذا السياق تقتضي الإشارة إلى أنّ الدينامية القواتية – المسيحية – الوطنية في مرحلة الـ٤١١٤ يوماً في المعتقل ارتكزت إلى ثلاثة عوامل: صمود جعجع في سجنه وعلى مبادئه، الخيار الوطني الذي تمسّك به، الدور الكبير لستريدا جعجع التي حملت الأمانة بأمانة.

أمّا أبرز المحطات التي تصدرت الـ ٤١١٤ يوماً منذ خروج الحكيم من المعتقل إلى اليوم فتكمن في الآتي:

أولاً، تمسّك جعجع بتحالف ١٤ آذار كإطار وطني للخروج من الأزمة اللبنانية، وتوفيره التغطية المسيحية لهذا التحالف إيماناً منه بالتحالفات العابرة للطوائف التي تؤكد أنّ الانقسام من طبيعة سياسية لا طائفية.

ثانياً، شكّلت معادلة س-س (سعد وسمير) الضمانة للشراكة المسيحية-الإسلامية داخل ١٤ آذار، فحرص جعجع على حماية هذه المعادلة، كما

تنظيم الخلاف مع الرئيس الحريري متى وُجد، وقد قدّم جعجع والحريري نموذجاً للعلاقة بين الحلفاء، إذ على رغم تباينهما الرئاسي نجحا في عزل هذا التباين لمصلحة الجوانب الأخرى المتفق عليها.

ثالثاً، أعاد جعجع «القوات» في سنوات قليلة إلى الرقم الصعب داخل المعادلتين المسيحية والوطنية، فلم يعد ممكناً تجاوزها لا مسيحياً ولا وطنياً، ومعظم الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى تصدّرها الساحة السياسية، وهذا الأمر عائد إلى ثبات جعجع وثقة الناس بقيادته.

رابعاً، نجح جعجع بطَيّ الصفحة الانقسامية مع «التيار الوطني الحر» في خطوة حققت ثلاثة أهداف أساسية:

الهدف الأول، تبريد الساحة المسيحية وترييح الأجواء داخل هذه البيئة.

الهدف الثاني، زيادة الفعالية المسيحية-الوطنية، كما التأثير في القرارات الوطنية.

الهدف الثالث، تنظيم الخلاف السياسي والاتفاق على الثوابت الأساسية المتصلة بـ»اتفاق الطائف» والدستور ودور الدولة.

خامساً، أعاد جعجع بناء جسور العلاقة مع الدول العربية والخليجية، وشكّلت ممارسته ومبدئيته محط إعجاب الحكّام العرب، وهذا العمق العربي لـ«القوات» كان جعجع شديد الحرص عليه منذ استلامه لقيادتها وتغطيته لـ«اتفاق الطائف».

سادساً، أعاد الحضور القواتي إلى كلّ عواصم القرار والدول المؤثرة التي تأخذ في الاعتبار وجهة نظر «القوات» من القضايا والملفات والاستحقاقات اللبنانية.

سابعاً، حوّل الخطاب القواتي إلى خطاب عابر للطوائف والمناطق، هذا الخطاب الذي لم يكن مسموعاً بالشكل المطلوب بفِعل حالة الانقسام التي كانت قائمة في مرحلتي الحرب والوصاية السورية، إلّا أنّ جعجع جعل الأدبيات القواتية على كلّ شفة ولسان.

ويبقى أخيراً أنّ المشترَك بين مرحلتي الـ ٤١١٤ يوماً في المعتقل والـ ٤١١٤ يوماً في الحرية يكمن في الآتي:

أولاً، ثبات رئيس «القوات» على خياراته المتصلة بالسيادة والاستقلال والحرية وقيام الدولة.

ثانياً، ثبات رئيس «القوات» على أهدافه المتصلة بإنجاح التجربة اللبنانية وتحقيق الشراكة.

ثالثاً، ثبات رئيس «القوات» على توجهاته المتصلة بإبقاء لبنان جزءاً لا يتجزّأ من الشرعيتين العربية والدولية.