IMLebanon

الوطنيّة ليست تفويضاً مطلقاً

 

في «العالم الثالث»، انبثقت أنظمة الحزب الواحد، معظمها إن لم يكن كلّها، من «النضال ضدّ الاستعمار»، أو ما بات يُسمّى «وطنيّة» في الأدبيّات القوميّة والراديكاليّة التي طوّرت معنى سلبيّاً محضاً للمفهوم هذا.

وفي العالم العربيّ تحديداً، ربّما كانت الجزائر النموذج الأنصع عن هذه المعادلة: ذاك أنّ «جبهة التحرير الوطنيّ» التي أنجبت الاستقلال في 1962 لا تزال عمليّاً، وعلى رغم مرور 54 سنة، تحكم البلد. ولأنّ حرب الاستقلال كانت شرسة، اصطبغ حكم آباء الاستقلال بالشراسة نفسها، حيث أنّ الحرب الأهليّة التي اندلعت في التسعينات لم تزدْهم إلاّ اقتناعاً بجدوى تمسّكهم بالسلطة!

أمّا في المشرق العربيّ، خصوصاً مصر وسوريّة والعراق، حيث خرج الاستعمار قبل أن يكون الراديكاليّون العسكريّون قادرين على بلوغ السلطة، فاستحوذ الأخيرون على «المسألة الوطنيّة» عبر ديناميّات ثلاث متكاملة:

– شكّكوا بالجيل المدنيّ الذي جاء بالاستقلال، إذ هو «رجعيّ» و «ربيب الاستعمار»،

– وأكّدوا أنّ الاستقلال «الحقيقيّ» ليس إخراجاً للاستعمار فحسب، بل مطاردة دائبة لمصالحه «الامبرياليّة» ولمصالح «أعوانه» و «عملائه» المحليّين، أي جيل الاستقلال،

– وحين أقاموا دولة الحزب الواحد جعلوا الوطنيّة شيئاً لا يتحقّق ولا يبلغ مثاله المفترض إلاّ بحرب دائمة ومصيريّة مع «عدوّ» ما. وهذا طبعاً يستدعي تعطيل الحياة السياسيّة، كما أنشأها الاستعمار ثمّ طوّرها قليلاً الجيل الاستقلاليّ الأوّل.

لقد قامت تلك النظريّة على فرضيّة أنّنا، في هذه الرقعة من العالم، نولد من أجل أن نقاتل، لا لأيّ هدف آخر سوى تحكيم القادة «الوطنيّين» بأعناقنا. وحتّى في فلسطين، حيث لم تقم الدولة بعد، اشتغل هذا «القانون» بشيء من الكاريكاتوريّة. فقد وضعت «فتح» يدها على الضفّة الغربيّة، و «حماس» يدها الأثقل وطأة على قطاع غزّة، وحلّ الوعد بالإنجاز محلّ الإنجاز.

وأفريقيا، بدورها، لم تكن بمنأى عن هذا المسار، وربّما كان الأشهر بين تجاربها هذه ما رعاه روبرت موغابي في زيمبابوي. فهو، على امتداد 36 سنة لا انقطاع فيها، حكم ملايين السكّان، وأفقرهم ونهبهم وجهّلهم وعزلهم عن العالم. أمّا السبب فإنّ إنهاء حكم الأقلّيّة البيضاء، واستبدال روديسيا بزيمبابوي، ارتبطا باسمه وباسم تنظيمه القَبَليّ – الماركسيّ «زانو».

لكنْ في الجنوب من زيمبابوي، في جنوب أفريقيا، شهدنا، قبل أيّام، حدثاً تاريخيّاً يهدّد بقلب تلك المعادلة الرديئة. فحزب «المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ» الذي أنهي النظام العنصريّ على يده، خسر أكثريّته المطلقة في انتخابات محلّيّة حظيت بصدى عالميّ. وهذه تُعدّ الهزيمة الأولى يتعرّض لها الحزب المذكور منذ إقلاع الديموقراطيّة في 1994، كما يُرجّح أن تمهّد لهزيمة أكبر في الانتخابات العامّة المقرّرة في 2019.

والحال أنّ الإنجاز الوطنيّ الكبير لم يسعف الرئيس الفاسد جاكوب زوما، وهو الرابع في جنوب إفريقيا ما بعد العنصريّة، ولا محاولاته السينيكيّة لتحريك المشاعر العنصريّة السوداء وإعادة استنهاضها ضدّ عدوّ أبيض بات وهميّاً. فقد انجذب ملايين السود للتصويت ضدّ الوضع الاقتصاديّ المتردّي والفساد المستفحل، وفي عداده بناء زوما، المناضل السابق ضدّ العنصريّة، قصراً في منطقته بكلفة 17 مليون دولار. وأهمّ ممّا عداه أنّ الحزب الذي انضوى فيه السود المعارضون وصوّتوا له، أي «الائتلاف الديموقراطيّ»، يُعدّ تاريخيّاً أحد أحزاب البيض، جذوره تعود إلى مكافحة النظام العنصريّ والتصدّي لحزبه الحاكم «الحزب الوطنيّ».

فالفرصة التي تتيحها جنوب أفريقيا في استخدام السياسة والديموقراطيّة لرأب التصدّعات الأهليّة، إنّما تقف على الضدّ ممّا فعله «وطنيّونا» الذين فاقموا تلك التصدّعات وكرّسوها.

لكنّ جنوب أفريقيا ما كانت لتوفّر هذه الفرصة وهذا الاحتمال لو أنّ قائدها «الوطنيّ» كان حافظ الأسد، صاحب «الأبد» الشهير، أو لو أنّ معارضتها لتلك الوطنيّة كانت على غرار المعارضة العراقيّة التي جعلتها حرب 2003 سلطة حاكمة في بغداد. لقد عرفت جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا، مؤسّساً وطنيّاً لها، هو الذي اعتزل العمل السياسيّ بعد عهد رئاسيّ واحد، كما تعيش اليوم تجربة «الائتلاف الديموقراطيّ» الذي نجح في التحوّل حزباً عابراً للإثنيّات.

وبالضبط لأنّنا لا نملك مانديلا و «الائتلاف الديموقراطيّ»، تزداد وطأة الوطنيّة، التي تغدو اليوم أكثر فأكثر إسلاميّة، على حياتنا.