IMLebanon

المارونيّة… الرّكن الأساسيّ في بناء كيان لبنان

كتب أنطوان بطرس الخويري في “نداء الوطن”:

المارونيّة جماعة كنسيّة روحانيّة عريقة، متجذّرة في هذا الشرق، وهي ذات رسالة نابعة من الإنجيل مُتفرّدة بالحرّيّة، لا تتحدّر من سلالة عُنصريّة، بل من روحيّة أسّسها “مار مارون” الرّاهب الناسك الذي لم يكن له وطن فأقام مع الله في العَراء، حيث يتلاشى الجسد تحت لهيب الشمس، أو تحت المطر والثلج والصقيع. وهي تابعة للكنيسة الكاثوليكية الجامعة. وهي مذهب روحيّ ولاهوتيّ وفكريّ ودينيّ وإنطاكيّ.

المارونيّة وَليدة حضارة الآراميّة – السّريانيّة، تؤمن بمبادئ المحبّة والتسامح وبفضائل القيم السّامية. أمّا تُراثها فهو روحيّ تُجسّده اللّيتورجيا المَوسومة بطابع الإيمان ضِمن أبعاده الرّساليّة في إكمال مَسيرة المسيح وجَذْب الناس إليه.

إنّ المارونيّة التي شعّت منذ القرن الرابع، ليست وليدة روما أو الكرسيّ الرسوليّ، ولا أوروبّا، بل هي وليدة إنطاكية طُقوساً وحضارةً وتُراثاً، وقد أغنت الشرق ثقافة روحيّة وفكريّة ومحبّة إنسانيّة، بِقَدْر ما قامت بدور انفتاح وتفاعُل مع مَراكز الفكر والرّوح في الغرب.

وتُدرك المارونيّة حقيقةً واحدة مُهمّة، هي أنّ قوّة العَدد ليست حقّاً طبيعيّاً لِقَهْر الأقلّيات الدينيّة، أو العمل على تهجيرهم، أو مُحاولة سَحْقهم وإبادتهم. فلا قوّة في الأرض تستطيع ذلك. وهي ترغب من الجميع القبول بالتعدديّة السّمحاء، والإعتراف بالآخر، والإحترام المُتبادل لإيمان الآخرين الشخصيّ وتُراثهم الدّينيّ الحيّ.

كما تُدرك المارونيّة أنّ في لبنان مجموعة أقلّيات دينيّة يعود أمرها لله. ولا يُمكن صَهْرها في بُوتَقَة دينيّة واحدة ولكن من المُمكن، لا بل من الواجب الحَتميّ، صَهْرُها في بُوتَقَة وطنيّة واحدة، ونظام مَدَنيّ واحد، والعيش معاً في حياة شَراكَة لا مُشاركة.

لذلك تسعى المارونيّة دائماً إلى تحرير القِيَم الدّينيّة، المسيحيّة والإسلاميّة من المَظالِم التاريخيّة التي ارتكبها البعض باسمها، وأَخْذ العِبَر من نتائجها، والتطلُّع إلى المستقبل، لتحقيق رسالة المحبّة والعدالة والسّلام.

ثمّ إنّ المارونيّة ليست دِيناً، وإنّما هي طائفة في دين. وأنا أقول: إنّها كنيسة. وليست هي لبنان، وإنّما هي رُكنٌ أساسيٌّ في بناء كيان لبنان. وأنا أقول: إنّها هي الكيان. فللكيان المارونيّ وللكيان اللبنانيّ معنى واحد. وهي فعل إيمان بلبنان، إذ إنّها تسعى دائبة منذ أكثر من ألف وستماية سنة في فَعاليّة قويّة ومستمرة، وفي بَذل تضحيات سَخيّة من أجل بنائه وإنمائه، وجعله مَوْئل حريّة، ودار أمان، ومَلجأ للمُرَوَّعين والمضطَهَدين. وهناك عناية أرادت على كرِّ العُصور أن تُظهر للشعوب كم هو عظيمٌ لبنان في صيغة عيشه ورسالته، وريادة أبنائه المّيامين في شتّى أصقاع الدُّنيا! وكم هو عظيمٌ في احترام حقوق الإنسان، كونه وطن الإنسان!

الكنيسة المارونيّة، هي ملحمة الخمسة عشر قرناً، وقد طاردوها، لأنها رفضت الخُضوع والذُلّ، وتَعَشَّقَت الحرّيّة. واضطهدوها لأنّها أبَت أن تذوب كُلِّيّاً أو جُزئِيّاً في ما ليس لله والإنسان. وحَسَدوها على قوّة إيمان أبنائها وبَسالتهم وشَجاعتهم وعلى صلابة مواقفهم والتمسّك بعقيدتهم وحُرّيّتهم، والزُّهد بالدّنيا، والصّلاة للإله الواحد.

البطاركة الموارنة

في سنة 687 انتخب الموارنة مار يوحنا مارون بطريركاً على الكنيسة الإنطاكيّة فثارت ثائرة الملك يوستنيانوس، معتبراً ذلك العمل خروجاً عن الإرادة المَلَكِيّة التي كان لها وحدها حَقّ تعيين البطاركة وعَزْلهم، فأرسل جيشاً بقيادة موريق وموريقيان للقَبْض على البطريرك الجديد والقَضاء على تلك الحركة الإستقلاليّة، وهَدْم دير مار مارون في سوريا وقَتْل رُهبانه. وبعد أن قام الجيش البيزنطيّ بتنفيذ أوامر مَلِكه، زَحَف نحو لبنان، وكان حينها البطريرك يوحنّا مارون قد لجأ إلى البترون مُتّخذاً من قلعة سمار جبيل مَعْقِلاً له. ولمّا علم ابن شقيقته ابراهيم بالخطر الذي يهدّد خاله البطريرك، مَدّهُ باثنَي عشر ألف مقاتل انضمّوا إلى جيش المَرَدَة. وجرت معركة هائلة بين الجيشين: البيزنطيّ والمارونيّ في بلدة أميون شمالي لبنان، انهزم فيها الجيش البيزنطيّ وقُتِل القائدان: موريق وموريقيان.

بعد ذلك اتّخذ البطريرك يوحنّا مارون من قرية كفرحيّ في البترون مركزاً لكرسيّه، وبَنى دَيراً وَضَع فيه جُمْجُمة القديس مارون تكريماً لذكراه وتقديراً لقداسة سيرته. ولمّا مات دُفِن في ديره هذا وأقامت له الكنيسة عيداً سنويّاً في التاسع من شهر شباط.

بعد البطريرك يوحنّا مارون أخذ الموارنة ينتخبون بطاركتهم وأساقفتهم من النُّسّاك والحُبَساء المُمَيَّزين بالقداسة والمُتَفَوّقين بفضيلتي التواضع والتجرُّد، وكذلك بالنسبة إلى حُكّامهم ومُقدَّميهم. وكانت قداسة السّيرة مِقْياساً في انتخاب ذَوي السُّلطة في مَجالَي الدّين والوطن. وكان البطريرك الرأس والقائد الأعلى في الرُّوحيّات والزّمانِيّات، وكانت لهذه الرئاسة سَطْوَة ونُفوذ. وكانت الأديار والكراسي البطريركيّة والأسقفيّة مراكز أهليّة يتجمّع حولها المؤمنون كعائلة واحدة متماسكة في السّرّاء والضرّاء. وهكذا تكوّنت القُرى حول الأديار والكراسي المذكورة، وازدهر العُمران، ونَما الشعب.

ولقد جَعَل البطاركة الموارنة الكنيسة المارونيّة عبر التاريخ، أمّة مستقلّة بحكمها الذاتيّ في جبل لبنان، من البطريرك إرميا العَمْشيتي، إلى بطاركة آل الرّزي الذين انفتحوا على الحداثة الأوروبيّة، وتأسّست في عّهدهم المدرسة المارونية في روما، وإلى البطريركَيْن يوحنّا مخلوف وجرجس عميره اللذين أرسَيا أحسن العلاقات بين أمراء الجبل والباباوات ومُلوك إيطاليا وأوروبا في القرن السّابع عشر، إلى البطريرك اسطفان الدويهي أبي التاريخ اللبنانيّ الذي ببركته تأسّست الرّهبانيّات المارونيّات الثلاث: اللبنانيّة، والمريميّة، والأنطونيّة، وهو السّائر اليوم على طريق القداسة. وإلى البطريرك طوبيا ضرغام الخازن بطريرك “المجمع اللبناني” الشهير، إلى البطريرك يوسف اسطفان مؤسس أوّل مدرسة وجامعة في الشرق مدرسة “عين ورقة” في بلدة غوسطا الكسروانيّة، إلى البطريرك يوسف حبيش الذي وطّد وحدة اللبنانيين مسيحيين ودروزاً ومُسلمين بعقد عاميّة أنطلياس سنة 1840، إلى البطريرك الياس الحويك أبي الإستقلال وإعلان دولة لبنان الكبير، إلى البطريرك أنطون عريضه الذي رهن صليبه وخاتمه يوم كان مطراناً لإطعام الجياع في الحرب العالمية الأولى، إلى البطريرك بولس المعوشي رائد الإفتاح على العالمين العربي والغربي، إلى البطريرك أنطونيوس بطرس خريش مقاوم تقسيم لبنان، إلى البطريرك نصر الله صفير رافض الاحتلال والوصاية على لبنان، وإلى البطريرك بشاره الراعي حامل شعار الشركة والمحبة والخدمة والحياد النّاشط، ومن المعلوم أنّ البطاركة تعرّضوا للمضايقات والاضطهادات في العهود الغابرة، كالبطريرك يوحنّا مارون الذي حاول ملك بيزنطيا أسره، إلى البطريرك دانیال الحدشيتي الذي أسره المماليك وقتلوه شهيداً، والبطريرك اسطفان الدويهي الذي اعتدى عليه كبير مشايخ آل حماده، والبطريرك جبرائيل من حجولا الذي سلَّم نفسه لوالي طرابلس المملوكي فِديةً عن الأساقفة والرهبان والأعيان المُعتقلين لديه جوراً وظُلماً، فأُحرق بالنار في ساحة المدينة!

لقد كان البطاركة الموارنة عبر التاريخ المُدافعين بقوّة عن الحقّ والعدل والحريّة والكرامة والسِّيادة والاستقلال، بحيث كانوا يرفضون “الفَرَمان” من السلطة الزّمنيّة من عهد العبّاسيين إلى عهد العثمانيّين رغم الإغراء والوعيد والتهديد. ولم يقبلوا إلا دِرْع التثبيت أو “الباليوم” من بابا الكنيسة في روما! ومن هنا كان صوت البطريرك المارونيّ قويّاً ومُدوّياً بالحقّ والحريّة، ومرجعاً كبيراً ومهمّاً لمسيحيّي المشرق قاطبةً.

منذ التحوُّلات التي أصابت منطقة المشرق بين القرنين السّادس والسّابع من جرّاء الحروب بين الفُرس وبيزنطيه، وبين بيزنطيه والعرب، وما خلَّفته من وَيلات ودَمار، دفعت بالموارنة كي يتّجهوا صوب الجبل اللّبنانيّ، ابتداء من منطقة العاصي والهرمل، فالجبّة وبشرّي وإهدن حتى عكار، حيث اختلطوا بمسيحيّين كانوا قد لجأوا قبلهم إلى لبنان منذ القرن الرابع. وجمعتهم عقيدة واحدة: المسيحيّة. ولُغة واحدة: السّريانيّة. وفي أوائل القرن العاشر امتدّ انتشارهم جنوباً من بيروت حتى جبل حرمون، مروراً بصيدا وصور حيث كانت المسيحيّة قد أخذت تشعّ بأنوارها منذ أن وطأت أقدام المسيح وأمّه مريم العذراء وبعض الرسل تلك النّواحي. والشّواهد كثيرة: من التقاء يسوع بسمعان وأندراوس، وبفیلبُّس ونتنائيل بين صيدا وقانا الجليل، ومن شفاء تلك المرأة المنزوفة، إلى عُرس قانا الجليل… ثم إلى مغاور عدْلون قرب بلدة الصَّرفند، والمَغاور المجاورة لبلدتي الفرزل والهرمل، إلى مناسك وادي قاديشا وقنّوبين التي عَرَفَت عدداً من الزُهّاد والنُسّاك الذين عاشوا بين الصُّخور والغابات، وعلى التلال وفي الوِهاد، متحمّلين بصبرٍ وإيمان كلّ ما تعاقب عليهم من مصاعب وويْلات وأخْطار، وجَحافِل من الغُزاة والطُّغاة، ومتمسّكين بالإيمان والحقّ والكرامة والحريّة حتى الاستشهاد!

لم يَهْنَأ للموارنة عَيْش طوال قُرون من الزَّمن، وكانوا دائماً عرضةً للاعتداءات الغادرة وللنَّهب والسَّلب، لا سَنَدَ لهم ولا مُعين سوى إيمانهم وعَرَق الجبين. وكثيراً ما لجأ بطاركتهم إلى الاستغاثة بأحبار روما، ومُلوك فرنسا، فلم يحصلوا إلّا على بعض الأواني الكنسيّة ونَزْرٍ يَسيرٍ من الدَّراهم مع الكثير من الدُّعاء لتحمُّل الأعباء والمُعاناة والمظالم بطول صَبْرٍ وأناة!

وعلى الرُّغم من بَلاياهم، بَقِيَ الموارنة أوفياءَ للغَرب، وبخاصَّة روما، ولكن من دون أن يقطعوا علاقتهم المتينة بإنطاكية. فالعَلاقة تاريخيّة وقديمة العهد، منذ أن كانت مدينة صور تحتلّ المركز الأوّل في بطريركيّة إنطاكية. ومَحاضر المَجْمَع الخلقيدوني تحمل تواقيع أساقفة صيدا، وصور، وبيروت، وطبرجا، وجبيل، والبترون، وأنفه، وطرابلس وبعلبك…، ومنذ أن كانت إنطاكية عاصمة المشرق الروحيّة ودُعِيَت: “مدينة الله العُظمى” في عهد أسقفها الأوّل القدّيس بطرس.

وكما أخْلَصَ الموارنة للغرب، أخلصوا كذلك للشَّرق وللخُلَفاء العَرَب، الأمويّين والعبّاسيّين. إلا أنّهم عادوا إلى مُقاومتهم لمّا أراد الخليفة هشام بن عبد الملك إذلالهم والتّنكيل بهم. وحين أمعن العبّاسيّون في ظُلمهم وجَوْرِهم، ثاروا عليهم من جبل المنيطرة في هجوم عنيف، فسقط منهم شهداء كثيرون وعُومِلوا بوحشيّة هائلة، أثارت حينذاك غضب واستنكار الإمام الأوزاعي. إنّ ثورة الموارنة كانت دائماً ضد الظُّلم والطُّغيان طلباً للحرّيّة، حتى إنّ بعضهم انتفض على كنيسته ومشايخه ومجتمعه حين طالته يد التسلُّط، كما فعل يوسف بك كرم ضدّ المتصرفيّة، وطانيوس شاهين ضدّ إقطاع المشايخ، وجبران خليل جبران وفارس الشدياق ضدّ الإكليروس…، فالموارنة، هذه هي طبيعتهم منذ نشأتهم، أبناء تحرُّر عَقليّ وحُرّيّة إنسانيّة. وقد ازدادوا تَمَسُّكاً بهاتَيْن السِّمَتَيْن مع بطريركهم الأوّل يوحنّا مارون حين تعرّضوا للضِّيق والظُّلم والاضطهاد، فحُوصِروا في المغاور والكُهوف، واعْتصَموا في جبل لبنان حيث وَجدوا مساحةً كُبرى للحرّيّة.

الحُرِّيّة الشَّخصيَّة رَمزُ المارونيَّة

كُتِبَ على الموارنة أن ينتقلوا من خطر الاضطهاد في سوريا إلى لبنان، أرض الحرّيّة. «ومن خطر فُقدان شخصيّتهم الذّاتيّة هناك إلى مناعة الحفاظ على الشخصيّة الذّاتيّة هنا. وباجتماع هَذَيْن الأمْرَيْن الحرّيّة والشخصيّة الذّاتيّة، تحوّل لبنان إلى رمز المارونيّة الذي يحمل طابع الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والقداسة التاريخيّة». وارتبط تاريخ الموارنة بهذا الشاطئ الأرجوانيّ، وبهذه القرى الزُّمُرُدِيّة، وبهذا الجبل الأبيض الشّامخ المسنّ، وبهذا الأرز الأخضر الدّهريّ، بصِلَةٍ وثيقة كما بين الجسد والروح، تجلّت في شخصيّة الموارنة نقاوةً وجمالاً وصَفاءً وعنفُواناً وشُموخاً وعزيمَةً وإباءً وسُمُوّاً إلى الحرّيّة.

ومن جهة أخرى، أرّخ الكثيرون سيرة صُمودهم في وجوه أمبراطوريّات عاتية وفاتحين غزاة، ولم تَلِنْ لهم عزيمة ولا انحنى لهم جبين، بل كان إيمانهم هو الأقوى في المُقاومة والصُّمود في الأرض التي حَوَّلوها بسواعدهم وعَرَق جباههم إلى جنائن غَنَّاء من الشجر المبارك، كالزّيتون والكرمة، وإلى حقول من سَنابل القمح الذَّهبِيّة. وكانت لكلّ قطعة أرض نَقَبوها وعَمَّروا جُلولها، وكلّ بيت رفعوا مَدامیکه بـِ «العَوْنِة» وبالاشتراك مع بعضهم البعض، قبل أن تُنشأ ما سمي بـِ «الاشتراكية» في العالم، حكاية طويلة من الهناءة والسّعادة والإلفة والتّضامن. وإلى جانب ذلك، كانوا يتسلّحون دائماً بالنُّبل والإباء، وبالبَسالة وقوّة الشكيمة وروح المقاومة، وباللُّجوء إلى حَمْل السلاح متی أحْدَقت بهم الأخطار.

المَسيرة المارونيّة

وبقدر ما كان الموارنة يتحلّون بالإباء والشجاعة والفُروسية، كانوا بالقدْر ذاته وأكثر، يتحلّون بإيمانهم وحبّهم للصلاة والخير والسلام. وكانوا ينادون الكاهن أو الراهب بـِ «يا معلّمي»، (مُعلّم القراءة والكتابة، مُعلّم الصلاة والفضائل والأخلاق والآداب، مُعلّم المهن الحرّة والحرف اليدويّة، مُعلّم الزراعة واستصلاح الأرض والإنتاج، مُعلّم اقتلاع الحجارة وتعمير البيوت والحَفافي، مُعلّم العناية بالصحّة والوقاية والتداوي بالأعشاب…). وكان الرُّهبان الموارنة يفتحون أبواب أديارهم للشُّركاء العاملين في أرض الدير وجيرانهم كأنّهم إخوة لهم، يتناولون الطعام سويّة، ويصلّون معاً، ويحتفلون جميعاً بالأعياد والأفراح، ويُشاركون بعضهم البعض في الأتراح، ويتقاسمون خيرات المواسم والغلال، ويتسابقون إلى خدمة الدير وأراضيه، ويهتمّون بالزّائرين والضيوف، ويعيشون أيّامهم عائلة واحدة متبادلين المحبة المسيحية المشتركة بإخلاص وتواضع واحترام.

ويوم تركوا الأديار في جبالهم، وهبطوا إلى السّاحل، هبطت تلك القيم الروحانيّة وضاعت حرمة حجارة الدير الجبليّ بإسمنت العمارات في المُدُن! وبعدما توطّنوا الأرض واستصلحوها وزرعوها أشجاراً مثمرة بالعرق والتّعب، صاغوا منها ملاحمهم، وأساطيرهم، وعاداتهم، وتقاليدهم الاجتماعية والتاريخية، واتخذوا لهم من هذا التراث العريق هويّتهم الخاصّة والفريدة، وبرزت لديهم فكرة «كيان الوطن اللبنانيّ» فحَقَّقوها. ثم استقدموا في ما بعد «روح القوميّة الوطنيّة» الطّالعة من أوروبا، فاعتنقوها. وبعد ذلك، كَوَّنوا لأنفسهم مُجتمعاً خاصاً بهم، نَعِمُوا فيه طوال حكم الأمراء المعنيّين والشهابيّين، وفي بعض أيام المتصرفيّة. غير أنهم تعرّضوا، كما دائماً عبر تاريخهم، بسبب تلك النّهضة المشهودة وبناء كيانهم الحرّ المستقلّ، للانتقادات والمضايقات، فدخلوا في صراع هائل مع الأفكار الشرقيّة السّائدة حينذاك، ومع السَّلْطنة العثمانية الحاكمة، ودفعوا ثمن نهضتهم ومواقفهم وأهدافهم المثاليّة عدداً كبيراً من الشّهداء الميامين، لتمسُّكهم بالأرض والكيان، وبالوطن الحرّ السيّد المستقلّ.

المارونيّة داعية رساليّة

تحوّلت المارونيّة من كنيسة روحيّة، ومدرسة لاهوتيّة، ومؤسّسة وطنيّة إنسانيّة، إلى داعية رساليّة لشعوب المَشْرق كافّة، ودَعَت إلى العَيش المشترك مع جميع الناس على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم وخياراتهم الدّينيّة. إنّها وريثة حضارة انطلقت من ساحل لبنان الفينيقيّ حيث اختُرعت الأبجديّة. وعَزّزت الحركة الاستشراقيّة برسالتها التربويّة التعليميّة، انطلاقاً من مدرسة تحت السنديانة أو من داخل الكنائس والأديار، ثمّ من مدرسة « حَوقا « في الجبّة شمالي لبنان سنة 1624 التي درّست خمس لغات: السريانيّة، والعربيّة، والإيطاليّة، واللاتينيّة، والفارسيّة. إلى مدرسة عين ورقة «في غوسطا الشهيرة سنة 1789، التي كانت أوّل معهد جامعيّ في الشّرق، ومنها تخرّج كبار الأساقفة والكهنة ورجال الأدب والفكر. وإلى المدرسة المارونيّة في روما التي تخرّج منها نخبة مميّزة من الرجال، بالعلم والفكر والثقافة، ملأت شهرتهم الشرق والغرب، فقيل حينذاك: « عالم علّامة كمارونيّ «.

ولم تقتصر رسالتهم على نهضتهم التربويّة والفكريّة والإنمائيّة، بل شملت مجالات أخرى كالطّباعة التي كانوا أوّل من أدخل آلاتها إلى الشرق، والترجمة، والصّحافة التي حملوا مِشعلها من مصر إلى أميركا والبرازيل والأرجنتين وغيرها، وأصدروا فيها أرقى الصحف والمجلّات. وأتقنوا كذلك فنون الرسم والنحت والموسيقى والأدب والشّعر، لا سيما الشّعر الزجليّ الذي تميّز به لبنان واللبنانيّون بخصوصيّة فريدة. وأوّل من برع بنظمه رجال الدّين الموارنة الذين أرّخوا أحداث الأيّام ومجرياتها بهذا الشّعر، كالمطران جبرائیل بن بطرس القلاعي، والمطران يوسف حليب العاقوري، والخوري کامل نجيم الغوسطاويّ، والمطران عبد الله قرألي. كما نظم غيرهم الكثير من الأناشيد والتراتيل الروحيّة نقلاً عن الشعر السّريانيّ الذي نظمه مار افرام، ومار يعقوب، ومار بالاي وغيرهم. ثم نشأ له شعراء مُجيدون، فألّفوا جوقات إنشاد وغناء وتحدّ، وأصدروا له مجلات وكتباً شهيرة. وغدا بفضل هؤلاء جميعاً فنّاً من أرقى فنون الفكر والموهبة والإبداع، وتراثاً شعبياً ووطنياً، كالرّسم لإيطاليا، والموسيقى لفرنسا وألمانيا!

والموارنة هم الذين صانوا اللّغة العربيّة من التتريك، وعملوا على تطويرها ووضع القواعد لها، إلى جانب احتفاظهم بلغتهم الأولى السّريانية التي استمدّوا منها طقوسهم الكنسيّة وصلواتهم. وهم من شجّعوا الزّراعة والتجارة والانفتاح على الغرب، الأمر الذي جعل جميع اللبنانيّين ينعمون بالراحة والطمأنينة والبحبوحة والرّخاء طوال مدّة من الزمن. وما يثبت ذلك، هو إطلاق القول المأثور الذي شاع كثيراً: «نيّال من له مرقد عنزة في جبل لبنان».

ومن الموارنة أساقفة جلسوا على كرسيّ بطرس في روما، وأباطرة على عروش الرّومان، وقدّيسون وقدّيسات في السّماء: القدّيس شربل، القدّيس نعمة الله الحرديني، القدّيسة رفقا، القدّيس يعقوب الكبّوشيّ، القدّيس اسطفان نعمه، البطريرك اسطفان الدويهي، وقريباً البطريرك الياس الحويّك والأب أنطون طربيه… وقبلهم: القدّيسة أكويلينا، والقدّيسة مارينا… والموارنة هم الكاثوليكيّون الأول في دنيا المشرق. ومنهم منارات أضاءت سماء الشّرق والغرب بفكرهم وفنونهم وآدابهم وعلومهم. ولولاهم لبقي الشرق متسكّعاً في ظلاميّة التسلّط والاستعمار والعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والتخلّف والإقطاع، فهم الذين عزّزوا الروح الديموقراطيّة، ودعموا العاميّات الشعبيّة، وكانوا من دعاة العيش المشترك، ومن حماة الوحدة الوطنيّة، ومن رعاة الحريّة والحقوق الإنسانيّة.

ازدهرت المارونيّة في عهد الأمير فخر الدين الثاني فكراً، وعلماً، وقوميّة ونهضة عمرانيّة، وزراعيّة وصناعيّة (صناعة الخزف، الزّجاج، الصّباغ، الحرير، الأجراس…) وتحالفات ثقافيّة وإنسانيّة مع الغرب، واستقدام الخبراء والتجّار والمُرسلين، وتشييد معابد وكنائس، وعقد مَجْمَعَي: دير سيّدة قنّوبين، ودير سيّدة اللّويزة حيث تمّ وضع أوّل مجمع لبنانيّ قانونيّ للكنيسة المارونيّة. وارتبطت هذه الكنيسة بالوطن اللبنانيّ لا بالجماعة السّياسيّة. ورسالتها إكمال مسيرة السيّد المسيح في الخدمة والرعاية وتوفير العدالة والمساواة للإنسان وما يحفظ له كرامته ويصون حقوقه. وهي ترفض الانصهار والذّوبان والانغلاق والانعزال، فشهادتها الإيمانيّة المحبّة والأخوّة والشركة والسّلام.

ونَعِم الموارنة برعاية فرنسيّة خاصّة بعد معاهدة فرنسا مع السّلطان العثمانيّ وحصولها على امتيازات سياسيّة وتجاريّة، وحماية حقوق المسيحيّين الكاثوليك في الشرق. فنشطت الحركة الثقافيّة، وأنشئت المدارس الوطنيّة والإرسالية، وانتشرت اللغة الفرنسيّة، وقامت نهضة تعليميّة وتربويّة مشهودة. كما ازدهر الفكر القوميّ الوطنيّ مع نخبة من اللّبنانيّين في فرنسا (شكري غانم، خيرالله خيرالله، نجيب العازوري، رشید الدحداح، بولس نجیم…) ومثلهم في مصر (أنطون الجميّل، داود بركات، خليل مطران، يوسف السودا، المطران يوسف دريان، الأباتي بطرس الخويري…) فأنشأوا الجمعيّات وألّفوا الكتب، وأصدروا الصحف، وكتبوا المقالات، وترجموا المؤلفات، وجمعوا الوثائق، فكانوا في أساس النهضة القوميّة السياسيّة.

والموارنة لم يكتبوا تاريخهم في الكتب أو على الورق، بل كتبوا بدمائهم الزّكيّة على أرضهم ملاحم الجهاد والاستشهاد، وحوّلوها إلى أرض عطاء وعبادة وإيمان وحرّيّة وسيادة واستقلال، وأرسوا فيها وجودهم وكيانهم.

اشتهر الموارنة بإيمانهم وروحانيتهم المُضَمَّخة بعطر الإيمان وشذا المحبّة. يدخل المارونيّ إلى الكنيسة فيتنشّق رائحة البخور تتفاوح من بين حجارة تلك الجدران العابقة بنفثات الصّلوات المتصاعدة من القلوب والأفواه. ويستنير بشموع التقوى المضاءة على مذبح القربان، حيث «خبز الحياة، وقوت النُّفوس، وحياة الأنام». وتميّزوا بمحافظتهم على استقلال لبنان وحرّيّته وسيادته. وجعلوا شروط الوطنيّة ستّة: «حفظ الحدود من تسرّب الدّخلاء والعملاء، وحفظ أرض الوطن من بيعها إلى الغرباء، حفظ الجنسية وعدم منحها الأجانب، حفظ الأمن من عبث المجرمين والمخرّبين، حفظ إدارات الدولة من غير الأكفّاء والمخلصين، وحفظ سيادة الوطن على أرضه من غير انتقاص».

ولمّا بات العالم المشرقيّ مخنوقاً بالعصبيّات الطائفيّة، ومخروقاً بالعصابات التكفيريّة الإرهابيّة المسلّحة، ومصاباً بالتشرذم المذهبيّ وبالعقم والخمول والتشتُّت والانقسامات…، بدا أنّ هناك مشروع استئصال منهجيّ للمسيحيّين من مناطق المشرق كافّة، ومؤامرة كبرى لخلق قوميّات مصغّرة وكيانات جديدة، وهويّات أصوليّة، ومشاريع تهجير وتوطين غرباء ولاجئين ونازحين في غير أرضهم !.. لذا، على الموارنة، والمسيحيّين بخاصّة واللبنانيّين المعتدلين المخلصين، أن يعوا هذه الأخطار المتربّصة بهم فيحصّنوا أنفسهم، ويصونوا لبنان الذي هو أمانة غالية في أعناقهم، والعمل يداً واحدة لمجابهة التطرّف الطائفيّ الإقليميّ، والتصدّي للتآمر الدوليّ الآثم في محاولات الاقتلاع أو الابتلاع، واعتماد اليقظة والحذر لمجابهة جميع المخطّطات والمؤامرات المرسومة لهذا الوطن اللبنانيّ وأبنائه الميامين، والتأكيد على الوحدة الوطنيّة الحقيقيّة في التعاون والشراكة والوفاق والاتّحاد، والتمسّك بالسّيادة والهويّة الموسومَتَيْن بطابع التفاعل الإنسانيّ بين أبناء الوطن الواحد.

يبقى أنّ مشكلة الموارنة مع العرب، هي أنّ العرب يريدونهم أتباعاً، وهم ينشدون الرّسالة والحرّيّة، انطلاقاً من هويّتهم الرّوحيّة المسيحيّة: الخدمة والمحبّة. وذلك في الوقت الذي لا يزال فيه العرب مختلفين على تحقيق معنى العروبة والوحدة العربية التي ينتمون إليها بقوّة التقليد والإرث، على الرغم من دعوة القوميّين العرب لفصل «القوميّة» عن «الدّين»، والتمييز بين «العروبة» و»الإسلام».