IMLebanon

من الميثاقية السياسية… إلى الميثاقية الإقتصادية

وتحقّقت الميثاقية التي تضمَن عدالة النظام الطائفي، ولكي لا نستمرّ في الهرب من الفكرة، نعم إنه نظام طائفي وبغيض ولكن الى حين الوصول الى نظام أكثر علمانية، يبقى أنّ عدالة النظام الطائفي تعطي الثقة لجميع الأفرقاء، بأنّ حقوقهم تأمّنت، خصوصاً أننا نشهد وللمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع «الطائف» مشارَكة قوية للطرف المسيحي على مستوى الشراكة في هذا النظام.

ولكن تبقى حقوق وحيدة بانتظار أن تتأمّن! حقوق المواطن في دولة عادلة منتجة وشفافة! وربما الآن هو الوقت الأنسب لتحقيق ذلك، والفرصة الذهبية للانصراف الى العمل الجدّي في بناء الدولة.

It is now or never بحسب المقولة الانكليزية، هذا هو العهد الذي يمكنه البدء بهذه الورشة المنتظرة منذ زمن طويل.

ومن المؤكد أننا اليوم نحتاج الى ميثاقية من نوع آخر تُضاف الى الميثاقية السياسية، وهي ميثاقية ضد الفساد، حيث تتعهّد كلّ الأطراف بموجبها، بمكافحة الفساد والاحتكار، وبنعم كبيرة لتطبيق الشفافية، لإعادة الثقة الى المواطن في الدرجة الاولى، فتطبيق الميثاقية السياسية اليوم، إن لم يكن هدفها الأوحد إعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها، تكون ميثاقية ناقصة.

الاجدى اليوم أن يكون هذا الموضوع هو الموضوع الأساس لأيّ طاولة حوار مقبلة، فالبلد لم يعد يتحمّل ترف الانتظار، ولم يعد يتحمّل تأجيل الموضوعات الاقتصادية الضاغطة، ولم يعد يتحمّل استمرار الفساد بالشكل الراهن، فاستمراره يعني نهاية لبنان، دولة وكياناً ومؤسسات.

يجب أن يتمّ الالتزام ومن على طاولة الحوار بالسير جدّياً في اقتلاع الفساد، وفي التوقف عن حماية السارق مهما كان انتماؤه السياسي أو الطائفي، التوقف عن دعم الاحتكارات، وعن تغطية المناقصات والصفقات المشبوهة، والأهم التعهد بعدم ممارسة الكيدية السياسية من خلال الملفات الحياتية.

هناك الكثير لتحقيقه وإقراره، والورشة الأولى يجب أن تبدأ من خلال التشريع عبر إقرار سلسلة القوانين المهمة لمكافحة الفساد وقد يكون أهمها قانون حق الوصول الى المعلومات والذي يُجبر الإدارة العامة على أن تنشر كلّ آليات الصرف على الانترنت، ويجب أن يقرّ القانون بعد تعديله ليتضمّن نشر كلّ الصرف بالاضافة الى الرواتب والعلاوات، وأن يتضمّن أيضاً كلّ المؤسسات الخاصة الموكلة بالتصرّف بمال عام، لأنّ من حق المواطن في هذه الحالة أن يطّلع على الجدوى الاقتصادية لكلّ عملية صرف في ما يتعلق بصرف المال العام فقط.

إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد تابعة لرئاسة الجمهورية ليكون شعار العهد الجديد مكافحة الفساد، وحيث إنّ الرئاسة الأولى هي الحامي الأول للدستور والمؤتمنة على مصلحة البلاد العليا.

وأستشهد هنا بتجربة سنغافورة ومكتبCPIB (Corrupt Practices Investigation Bureau) وهي أقدم هيئة لمكافحة الفساد في العالم وتأسست منذ العام 1952، وباتت الركن الأساس اليوم في تحوّل سنغافورة الى البلد الأقل فساداً في العالم. مع الإشارة الى أنّ سنغافورة أيضاً بلد صغير ومتعدّد طائفياً وعرقياً، إلّا أنه نجح بفضل الالتزام من كلّ القوى السياسية بأن يكون البلد الأنجح في مكافحة الفساد.

على طاولة الحوار أن تعلن بشكل صريح عن رفضها كلّ أشكال الاحتكار الذي يعرقل إنتاجية الدولة ويسرق حقوق المواطنين، فلم يعد من المقبول التعامل مع الاحتكار وكأنه جزءٌ من اقتصادنا وتركيبتنا. يجب اقتلاع الاحتكار في موازاة اقتلاع الفساد، لأنّ العنصرين ضررهما كبير على إنتاجية الدولة، وعلى الوصول الى حقوق مستهلك متطوّرة تراعي حقوق الفرد، وتشجّع على التنافسية المحقة.

على كلّ الأطراف الاعتراف اليوم بأنّ الطريقة التي تتمّ بها أيّ رخصة أو معاملة في لبنان هي طريقة بالية ومعقّدة ولا تعتبر مسهلة للاستمرار، فإنّ الجزء الكبير من الفساد والهدر الحاصل يعود الى حجم الرشاوى والوقت المهدور عند إجراء المعاملات الروتينية، وهذا موضوع لا يجوز تجاهله وتجاهل كلفته المباشرة وغير المباشرة المتمثلة بهدر الوقت والطاقات.

ونعلم جميعنا أنّ الفساد يشكل نسبة كبيرة من إنفاق الموازنة كما يشكل نسبة كبيرة من مداخيلها الفائتة، ولذلك لا يجوز أن تعامل مع هذه الظاهرة كأمر واقع، فالكلفة لا تنحصر بما نخسره من أموال المكلّفين بل تتعدّى ذلك الى الكلفة الإضافية المترتّبة على المؤسسات والاستثمارات الخاصة التي تنعكس سلباً على إنتاجية الاقتصاد اللبناني وقدراته التنافسية.

إنّ الفساد المنتشر والرشاوى الواضحة والمستترة هي نتيجة حتمية وواقعية للآليات والإجراءات والمعاملات التي نعتمدها في لبنان والتي هُندست خصيصاً لتسمح للسماسرة بالإكراميات والرشاوى، عدا أنّ الآليات المتبعة تستنزف وقتاً وجهداً لكلّ مَن يسعى الى تأسيس أيّ عمل أو شراء عقار أو الاستحصال على رخصة، أو تصدير بضائع أو حتى تسجيل سيارة.

وبالتالي على الجميع استيعاب المشكلة والسعي الى إنشاء مجلس أو هيئة يكون هدفها الرئيس إعادة كتابة كلّ الإجراءات في لبنان لخلق بيئة استثمار ناجحة وخالية من الفساد. والنقطة الأهم ايضاً هي العمل لتحقيق إصلاح القضاء واستقلاله ليكون إدارة فاعلة في أيّ حملة حقيقية لمكافحة الفساد في لبنان.

لم يعد من المقبول أيضاً التغاضي عن السياسة الضريبية المتفلّتة في لبنان، وأن يكون الالتزام الحقيقي نحو رسم السياسات الضريبية والمراقبة وإعادة حصرية فرض الضرائب الى مجلس النواب، وتحليل تأثير هذه الضرائب في الحركة الاقتصادية وبيئة الاستثمار.

فاستمرار الوضع على ما هو عليه من تخبّط وفلتان ضرائبي لن يزيد عائدات الدولة وسيراكم العجز العام ويشجع الفساد والسمسرة، وخرق سيادة الدولة.

كما تقديس مبدأ شمولية الموازنة وعدم التفريط بها كما هو حاصل اليوم، وعدم السماح لأيّ جهة غير الدولة باستيفاء ضرائب أو رسوم من المواطن. وبالطبع هناك طريق واحدة لهذه الرسوم والضرائب وهي مالية الدولة.

لن تتحقّق الميثاقية اليوم ما لم يتفق جميع الأفرقاء على الطريقة الأنسب لإدارة النفايات وإدارة الكهرباء، والموارد الطبيعية، وتنفيذ القوانين المتعثّرة أبرزها قانون السير مع استمرار سقوط الضحايا على الطرقات.

ولن تتحقّق الميثاقية ما لم يتمّ الاتفاق على تطوير قطاع التعليم عبر إدخال عقليات جديدة في إدارة المدارس الرسمية، وربما من خلال الاستعانة بمدارس خاصة عريقة أثبتت نجاحها لإدارة المدارس الرسمية، وبحساب بسيط يبدو أنّ كلفة الاستعانة بالمؤسسات الخاصة لإدارة المدارس الرسمية تخفض كلفة تعليم التلميذ الى النصف، وهذا ليس تخميناً بل من خلال حساب دقيق أجريته من خلال دراسة كلفة مدرسة مجانية موجودة في لبنان، مستوى التعليم فيها من أرقى المستويات ليس في لبنان فحسب بل في العالم.

الميثاقية السياسية كانت أول الغيث، إن لم ننتقل الى ميثاقية اقتصادية، وميثاقية لمحاربة الفساد وتحقيق الشفافية، فلن يكون هناك رابح ومهزوم، بل سنكون كلنا بلا أدنى شك خاسرين.