IMLebanon

قراءة في الخريطة الإقليمية والداخلية لأزمة التأليف

ثمّة من يعتبر بقوّة أنّ المنطقة ومِن ضمنها لبنان مع مرحلة دونالد ترامب لن تكون كما كانت في مرحلة ما قبله. هذه النظرية يقرأ البعض تجسّداتها من خلال غيرِ حدثٍ طرَأ في المنطقة، وأيضاً من خلال أحداث التناكف اللبناني الداخلي الذي استجدّ وطوى صفحة زخم العهد الجديد الإيجابي بعد أقلّ مِن شهر فقط على انطلاقته.

أطلّت هذه النظرية برأسها بدايةً من خلال شيوع «مقولة تلاوة فعل الندامة» من جهات كانت أكثر تشدّداً في رفض ترشيح العماد ميشال عون، ومفادُها أنّ اتفاق «الحزب الديموقراطي – الإيراني» الذي حملَ عون إلى رئاسة الجمهورية، كان يمكنه أن يصبح بلا فعالية لو تأخّرَت جلسة انتخاب عون أسبوعاً واحداً، أي إلى حين فوز ترامب غير المتوقع في الانتخابات الرئاسية الأميركية. كانت حينها المعادلة ستتبدّل لتجدّد حظّ النائب سليمان فرنجية رئيساً.

أمّا وقد اقتنصَ حظ عون اللحظة الدولية والإقليمية قبل تبدّلِها بأسبوع واحد، فإنّ السؤال الآن هو كيف يتبدّل تفاعُل الواقع السياسي اللبناني مع العهد الجديد، كونه جاء نتيجةً لتوقّعِ بدء مرحلة كيلنتون – طهران، فيما الآن سيُحكم على أساس انعكاسات أجواء مرحلة ترامب – بوتين على المنطقة ولبنان؟

بعض المصادر اللبنانية تَعتبر هذا السؤال نوعاً من الترَف التنظيري السياسي، ولكنّ بعضها الآخر يَعتبر أنّ مناخَه يشكّل بعضَ الخلفيات الخفية المسؤولة عن انتكاسةِ الزخم الذي انطلقَت به عملية تأليف الحكومة التي لم يَعد يُستبعد ترحيل تأليفها، ليس فقط إلى نهايات هذا العام، بل إلى ما بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض.

وتقدّم هذه المصادر ملاحظات عدة على هذا الصعيد:

ـ الملاحظة الأولى، أنّ إيران في لبنان ما قبل ترامب لن تكون هي ذاتها بعده. حسابات طهران في سوريا ولبنان وحتى في العراق، التي كانت مرسومة على أساس أنّ كلينتون رئيسة لإدارة البيت الابيض لن تكون هي ذاتها مع ترامب رئيساً. فمع احتمال فوز كلينتون كانت طهران تستعدّ لمرحلة إعادة بناء هيكلة اقتصادها، وممارسة سياسات في الإقليم تتماشى مع الإفادة من انفتاح واشنطن عليها.

لكن مع وصول ترامب، باتت إيران تستعدّ لإمكانية تَجدّد حصارِها الاقتصادي والسياسي، ما يعيدها إلى مرحلة ما قبل توقيعها الاتّفاقَ النووي مع أميركا، أو أقلّه إلى مرحلة عضّ أصابع إقليمي ودولي معها لإعادة إنتاجه.

ثمّة اعتقاد أنّ استعراض «حزب الله» العسكري في القصير، في توقيته، يأتي في أبرز خلفياته ضمن تبدّلات المناخ السياسي المنتظَر بين إيران والإدارة الاميركية الجديدة، وضمن لفتِ نظرِ إدارة ترامب المهتمة بأولوية قتال «داعش» على الساحة السورية إلى تبعات أيّ استبعاد لإيران في محاربة الإرهاب في سوريا.

الفكرة الأساسية في هذا المجال هي أنّ الأجندات الإقليمية وامتداداتها الداخلية، تتّجه شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح انتظارية بأكثر ممّا هي مستعجلة لإتمام مهمّة تأليف الحكومة.

فالانتظار في ظلّ اشتباك سياسي على معايير تأليف الحكومة، يُحقّق للأطراف الداخلية فرصةً لتثبيت معادلاتها على العهد الجديد، والأمر نفسه بالنسبة إلى الأخير الذي يحاول فرضَ معادلاته على طيف القوى اللبنانية السياسية، انطلاقاً من إثبات مقولة أنّ رئيس الجمهورية «القوي» قادر بالممارسة السياسية على أن يعوّض نقصَ صلاحيات فخامة الرئيس الماروني المسيحي في جمهورية «الطائف»، وأن يعيد إنتاجَ السلطة بما يضمن إزالة خللٍ طاوَل مشاركة المسيحيين فيه طوال العقود الثلاثة الماضية.

وطموح عون الآنف هذا يشكّل نقطة الخلاف الرئيسة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يرى في ذلك عودةً في الممارسة السياسية إلى «زمنٍ مضى (يقصد المارونية السياسية) لن يسمح به بكلّ الوسائل المناسبة».

«حزب الله» كما «القوات اللبنانية» ليسا خارج هذا النزاع على إعادة إنتاج قواعد ممارسات سياسية جديدة للحكم ضمن «الطائف» أو تثبيت قديمها، والذي يحتلّ واجهته الآن سجالُ بري وعون.

«القوات» ترى أنّ الرئيس القوي الذي ساهمت في رفعِ رصيده المسيحي بعد «تفاهم معراب»، يقدّم فرصة ذهبية لعودة المسيحيين إلى الدولة، فيما «حزب الله» يرى أنّ عون الرئيس يجب عليه مراعاة مكاسب الشيعة داخل النظام والمحقّقة منذ الإمام موسى الصدر حتى بري، وهو لا يتحمّلُ في لحظة عودةِ التهديد الأميركي لدور إيران في المنطقة بعد انتخاب ترامب إظهارَ أيّ إشارات ضعف لموقع الطائفة الشيعية في النظام اللبناني.

ـ الملاحظة الثانية، تتمثّل في سباق مستجد بين إقليميين عائدين إلى الساحة اللبنانية بعد طول انقطاع عنها. وتُحتسب ضمن هذا الإطار زيارات رسُل القاهرة والسعودية إلى بيروت، وأيضاً إيران.

وفي هذه النقطة تبرز إشارة مهمّة، وهي أنّ زخمَ العودة الإقليمية إلى لبنان، سببُه الجوهري أنّ كلّ دول المنطقة الفاعلة في لبنان كانت تنتظر مرحلة خروج الرئيس باراك أوباما المتردد وذي السياسة غير الواضحة في المنطقة من البيت الابيض، لتبدأ مرحلة ممارسة دورٍ لها في الإقليم في ظلّ إدارة جديدة يفترض أنّها ستتعامل مع وقائع المنطقة بحزمٍ أو بوضوح أكثر.

ومن هنا بدأ مشوار عودة الإقليميين لتأكيد أدوارهم فوق الساحات الإقليمية، وبينها تلك التي كانوا قد أهملوها (لبنان) واعتبروها ساحاتِ صِدام وانتظار، وليست حاليّاً ساحات إدارة تسويات وتثبيت معادلات فيها.

الإشارة الثانية المهمّة، تتعلّق بأنّ الاهتمام الإقليمي بلبنان، المتولّد مع لحظة خروج أوباما من البيت الأبيض، يتميّز بأنّه ذو أجندات متباينة وليست متجانسة. فالأجندة الايرانية باتت تميل إلى أن تصبح انتظارية حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في سياسات ترامب نحوها.

وحتى الأجندة المصرية ليست مع ترامب وبعد الإشكال بين القاهرة والرياض في مجلس الأمن حول هدنة حلب، هي ذاتها الأجندة السعودية، فالأولى تريد ركوبَ موجة بوتين – ترامب في المنطقة. والثانية تريد ركوبَ موجة مبادرة الحريري للتوصّل إلى احتواء ما تظنّه طهران من أنّ انتخاب عون يمثّل انتصاراً لها في لبنان.

وضمنَ هذا الاتّجاه تتوقّع نسبة كبيرة أن تعيّن الرياض سفيراً لها قريباً في لبنان، وأن تؤشّر للإفراج عن هبتِها المالية للجيش اللبناني. وفيما رسَمت زيارة وزير شؤون الخليج العربي ثامر السبهان الأخيرة لبيروت إطارَ دورها المقبل في لبنان المؤلف من نقطتين أساسيتين: سعد الحريري أوّلاً في الساحة السنّية اللبنانية، وعدم السماح لإيران في لبنان بأن تبنيَ معادلات النفاذ إلى رأس الحكم فيه، كما هو حالها في العراق، فإنّ زيارةَ الوفد السعودي الثاني برئاسة أمير مكة خالد الفيصل، تجسّد الخطوة الأولى على هذا الطريق، ولو عن طريق إثبات حضور الرياض البرتوكولي في استعدادها للتقرّب من عون عبر تقديم التهنئة له.