IMLebanon

إرتداء الشورت ليس من حقِّك

ها هي «جيسي» أمام المرآة تُلقي على إطلالتها النظرة الأخيرة قبل أن تخرج للعشاء مع الأصدقاء. وفجأة يعلو صراخ الأم في البيت، «ما هذه التنورة القصيرة التي ترتدينها، أليس لديكِ أطول منها؟»، «إذا رآك والدك سيجنّ جنونه»، «ما هذا الجيل الذي لا يعرف العيب؟»، «من سيأتي لاصطحابك؟»، «متى ستعودين إلى المنزل؟»، «لا تتأخري». وبعد طرح نهر من الأسئلة يُغرق الفتاة بالموروثات التمييزية ضدّ المرأة، تعود الأم مرّة أخرى لتطلق صفّارات الإنذار من قِصر تنورة ابنتها، وتضغط عليها بثقل العقد النفسية والاجتماعية والجنسية التي توارثتها، لتنزع عنها لباسها العصري «المُعيب»، وتستبدله بآخر يُحكم الغطاء على جسدها.

لطالما كان جسد المرأة من المحرّمات في مجتمعاتنا. والنظرة إليه، على أنه أداة إغواء جنسية يملكها والدها ويحفظها، ويعطيها لاحقاً لرجل بالزواج ليملكها ويكبّلها بأهوائه، حجّمت حياة المرأة ودورها وهَمّشت كيانها وإنسانيتها.

قيود

في الكثير من المجتمعات ما زالت المرأة لا تستطيع أن تخرج بالشورت أو بتنورة قصيرة خارج أسوار بيتها وإلّا انهالت عليها التعليقات المقزّزة والمهينة من كلّ مكان، والسبب هي. فهي من جلبت سَيل التحرّشات والإهانات عليها لأنها عرضت ساقيها… للمارّة. والرجل موجود هنا ليحدد الإطار الأخلاقي لابنته وأخته وزوجته، بينما ينساه كليّاً عندما يرى مَن عَصت هذا النهج من خارج دائرة «نسائه»، فتتحوّل بنظره إلى فلتانة ومُباحة، يحقّ له تفجير كبته عليها بشتّى الطرق من توجيه الملاحظات لها وتأديبها، أو جرفها «بالزّناخَة» والتحرشات اللفظية، وقد تتطور تعدياته إلى التحرّشات الجسدية.

كسر الصمت

اعتادت النساء السكوت أمام هذه التعديات الصارخة عليهنّ، ولقّنتهنّ المنظومة العائلية الاجتماعية الدينية منذ الطفولة أن يخجلن ويخضع ويصمتن، وأنّ الطاعة والهرب من المواجهة من صفات الأنوثة. إلّا أنّ خطوة لافتة سجلتها نساء تركيات.

هنّ بادرن إلى رفع الصوت في الشارع ضدّ الوصاية الأبوية عليهنّ. فقد تظاهرت مئات التركيّات احتجاجاً على ما وَصفنه بالعنف المسلط عليهنّ من الرجال الذين يطلبون منهم ارتداء ملابس أكثر حشمة.

جاءت المسيرة تحت عنوان «لا تعبثوا بملابسي»، في مدينة اسطنبول، حيث حملت النسوة ملابس قصيرة. وأتت هذه الاحتجاجات في أعقاب تعرّض شابة تركية للاعتداء من قبل رجل في حافلة في إسطنبول، لارتدائها سروالاً قصيراً.

أمّا في لبناننا العزيز، فلم يبادر بعد النواب – وهم أكثرية ساحقة من الرجال- إلى التصويت على قانون يجرّم التحرّش بالنساء المتفشّي في الأماكن العامة وفي العمل، بينما ما زال النواب يتمسّكون بقانون بالٍ من حقبة الانتداب الفرنسي، وهو لم يُعدّل ولا يُطبّق إلّا أنّ تطبيقه مُشرّع، ويعتبر النساء اللواتي يرتدين «الشورت» مخالفات للقانون، ويمنع ارتداء «البيكيني» أو لباس السباحة المثير.

مفتاح التغيير في يدكِ

مبادرة نزول النساء التركيات إلى الشارع للتذكير بحقهنّ بانتقاء ملابسهنّ وتصويب حياتهنّ بعيداً عن أهواء الرجال، تدلّ إلى تغيير كبير في صفوف النساء. فعبر العصور لم تخضع النساء وحسب للمنظومة الذكورية التي سحقتهنّ إنما شجّعناها.

ويكفي النظر إلى النساء الطاعنات في السنّ حتّى نلاحظ مدى إصرارهنّ على حَمل شعلة تكريس سطوة الرجل وعبادته وتأليهه من جيل إلى جيل، وتحجيم أنفسهنّ أولاً وسحق بناتهنّ وشنّ الحرب على كنّاتهنّ بهدف إرضاء الزوج والأب والابن وتأمين راحتهم…

إنّ وعي النساء حول حقوقهنّ والسعي لنيلها لن يطور واقعهنّ وحسب، إنما سيغيّر صورة مجتمعات بأكملها جعلت عبر العصور لباس نسائها وتصرفاتهنّ هوية مُعرِّفة عن المجتمع، في الشرق أو في الغرب. فمن طريقة لباسها نعرف لأيّ مجتمع تنتمي.

هنا مجتمع يرغمها على التستّر ويأسرها بالقماش والحيطان والعيب ويتهمها بمحاولات إثارة الرجل عند أي خرق… وهناك مجتمع يُسلّعها ويُعلّبها ويسجنها في صورة المرأة التي عليها أن تعيش لنيل إعجاب الرجل فتكرّس معظم وقتها لتحويل إنسانيتها على هيئة لعبة بلاستيكية تتشابَه مع آلاف اللعب في السوق.

وأي منهنّ تتجرّأ على المخالفة، ينظر إليها الناس على أنها ليست «مودرن» و»سكسي» وتقبع في خانة النساء غير المهتمات بأنفسهنّ والباهتات المثيرات لبرودة الرجل والمجتمع ككل.

وفي ظل كل الكلام من «ليش لابسِة قصير؟» إلى «ليش مش عاملي منخارِك؟»، آن الأوان للنساء أن يكسرن القشرة الشكلية التي تضغطهنّ ليخرجن بإنسانيتهّن وإنجازاتهنّ إلى العالم.