IMLebanon

أمضَت العمر تستجدي كلمة… 17 ألف مفقود طيّ النسيان

«راح عدنان ع أساس 5 دقايق عام 1982،… وبعدو بيرجَع!». تصرخ زوجته وداد وهي تُصارع دموعها. ملَّ منها الصبر، ولم تملّ الانتظار، أكثر من 30 مرّة «إجا التلج وراح التلج»، وحالُ وداد كوضعِ الآلاف من العائلات اللبنانية التي أمضَت العمر تستجدي كلمةً من المعنيين، تُبرّد قلبَها عن مصير أفرادها المفقودين.

عدنان واحد من بين الـ 17 ألف حالة اختفاء تمّ تسجيلها رسمياً. فقد خرج من منزله الكائن في رأس النبع بعدما استدعاه شخصان بحجّة التحقيق معه على خلفية حادث سير، لم يكن فيه أصلاً.

«خسرتُ شريك حياتي الذي تقاسمتُ معه طفلين»، تروي وداد حلواني رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، مشيرةً إلى أنّ فكرة تأسيس هذه اللجنة ولِدت بعد أشهر من مسيرة بحثٍ مضنية عن زوجها، فتقول لـ«الجمهورية»: «وجدتُ نفسي أبحث عن كلّ المفقودين وأنا أتقصّى عن زوجي على أبواب المسؤولين، وأستجدي أيّ معلومة».

وأكثر ما أدهشَ هذه الزوجة المناضلة عددُ المعذبين: «ظننتُ نفسي لوهلةٍ وحيدةً مع عذاباتي، ولكن تبيّن لي أنّ العدد هائل، ويوم ناديت لنجتمع نحن ذوي المفقودين، اكتشفتُ أنّ الظلم ينهش مختلفَ العائلات بصرف النظر عن انتمائهم وهويتهم».

«حربو ما خلصت»

لا تفوّت حلواني وغازي عاد رئيس لجنة «سوليد» وأهالي المفقودين فرصةً على أنفسهم للمشاركة في أيّ مناسبة أو ذكرى تُعيد قضية المفقودين إلى الضوء، ولا سيّما أنّ المحطات الرسمية خجولة، فعلى حدّ تعبير والد أحد المفقودين: «إذا الموجودين الدولة مِش سائلة عنّن، كيف ممكن تسأل عن المفقودين!».

لذا تحتلّ المناسبات التي تعدّها المنظمات الدولية حيّزاً كبيراً في اهتمام الأهالي، ومِن بينها دعوة اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي أحيَت أمس اليوم العالمي للمفقودين، في جامعة القدّيس يوسف.

غصّت قاعة فرنسوا باسيل في الطابق الأوّل بالأهالي الذين حملوا آمالهم وآلامهم معهم، فبدا المشهد مؤثّراً إلى حدٍّ كادت تنطق حجارة جدران القاعة تأوُّهاً: أمٌّ تحمل صورَ ابنِها والرجفة تتملّك بيديها، أختٌ تعانق سترةَ أخيها، مرّة تمسَح بها دموعَها ومراراً تشمّها، والدٌ يضمّ إلى صدره مجلّداً عن ابنه، اصفرَّت أوراقُه وتمزّقَت حنيناً… أمّا على خشبة المسرح فرُفِعت صورة معبّرة لوالد يحمل صورةَ ابنِه المفقود، ودوّن عليها شعار خاص بالمناسبة: «الحرب خِلصت بس حربو ما خلصت».

قرابة الخامسة والربع انطلقَ النشاط على وقعِ النشيد الوطني وأنين الأمّهات. ثمّ ألقى نائب رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان ماركو سوتشي كلمةً أكّد فيها تمسّكَ اللجنة بإحياء ذكرى المفقودين كلّ عام: «علينا أن نتضامن لنذكّر العالم بهذه القضية وببحثكم عن الأجوبة.

في لبنان اختفى الآلاف خلال النزاعات المسلّحة الماضية… لم تُتّخذ حتى الآن أيّ تدابير فعّالة لعلاج هذه المشكلة»، مشيراً إلى «أنّنا في سباق مع الوقت، اختفى البعض منذ أكثر من 40 عاماً، وبدأ أهاليهم يلاقون حتفَهم».

وهنا لا بدّ مِن الإشارة إلى أنّ بعض الأهالي عجز عن كبتِ غصّتِه، فرفعَ صوته مراراً معبّراً عن عتبِه على السلطات اللبنانية، وعن خوفه على مصير المفقودين إزاء «استلشاء» المعنيين. إلّا أنّ سوتشي تمهّلَ في خطابه وتوقّفَ للردّ على استفسارات الأهالي بصدرٍ رحب، ما خفّف مِن منسوب الاحتقان الذي بدأ يرتفع مع تذكّرِ الأهالي لمآسيهم.

ألفان و500 عائلة

في هذا السياق، أوضَح المتحدّث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر طارق وهيبة في حديث لـ»الجمهورية»، «أنّ المفقود هو أيّ شخص لا يعرف أقرباؤه عنه شيئاً، أو تبلغَ عن فقدانه استناداً لمعلومات موثّقة»، مشيراً إلى جهود اللجنة في المساعدة على كشفِ مصير المفقودين، قائلاً: «مِن حقّ العائلات معرفة مصير مفقوديها، لذا بدأنا في العام 2012 العملَ على مشروع جمعِ بيانات ما قبلَ الاختفاء، فالدولة اللبنانية والمجموعات التي تعمل على ملفّ المفقودين سلّمتنا كلَّ ما تملك من معلومات، بالإضافة إلى لائحة طويلة بأسماء المخطوفين».

وأضاف: «بدأنا الاتصال بالعائلات وزُرناها لجمعِ تفاصيل ظروف ما قبل الخطف، والتقصّي عن أيّ معلومة تفيدنا في المستقبل. حتى الآن زُرنا ألفين و500 عائلة». وتابَع: «في الوقت عينه تفاوَضنا مع الدولة لنتمكّنَ مِن جمعِ عيّنات بيولوجية من الأهالي، لذا باشَرنا بجمعِ وتخزين العيّنات، جَمعنا حتى الآن عيّناتٍ لأكثر من 600 عائلة».

في هذا الإطار، أكّد وهيبة أنّ هدف اللجنة ليس استبدال دور الدولة، إنّما «نتيجة التأخّر وغياب القانون الخاص بالمفقودين، نؤدّي دوراً إعدادياً استشارياً، نجمع البيانات والعيّنات، ولا نملك صلاحية استخدامها للكشف عن أيّ شخص. يقتصر دورنا على جمع عينات الحمضِ النووي من أقارب المفقودين».

وأضاف: «تؤخَذ عينتان من كلّ مانح، تُسلّم العيّنة الأولى إلى قوى الأمن الداخلي لحفظِها في مرافقها، والثانية تتولّى اللجنة الدولية حفظها، وفورَ إنشاء آليّة أو هيئة خاصة بالمفقودين سنسلّمها المعلومات الخاصّة بهدف تسهيل مهامّها».

لإقرار القانون

يُجمع أهالي المفقودين على أنّهم ليسوا «هواةَ ندبٍ وبكاء»، إنّما سيواصلون مسيرتَهم، لإيمانهم بأحقّية معرفة مصير أبنائهم. في هذا السياق، أكّدت حلواني «أنّ أعداد المفقودين أضعافُ ما يتمّ الإعلان عنه، في ضوء متابعتها للملفّ»، مشيرةً إلى أنّه بالنسبة إلى «أهالي المفقودين، كلّ يوم هو بمثابة اليوم العالمي للمفقودين»، فهذه المشكلة تعيش معهم، تأكل مِن صحونهم.

وسألت حلواني جميعَ السياسيين، ماذا يصيبهم إذا تأخّر أحد أولادهم في العودة ليلاً إلى المنزل؟ كم سيَخافون عليه ويضطربون؟ وما الحريّ بنا، فنحن منذ سنوات رهائن الوقت وفكرُنا «مشوّش».

والحلّ؟ أجابت حلواني: «كلّ ما نطلبه، أوّلاً مواصلة جمعِ العيّنات البيولوجية من أهالي المفقودين، ممّا يسهّل التعرّف إلى هوية المفقودين لاحقاً. وثانياً، عقدُ جلسة استثنائية خاصة بمسوّدة قانون تمّت مناقشتُه في اللجنة النيابية لحقوق الإنسان، وهو يمثّل آليّة كشفِ مصير المفقودين، هذا المشروع لا يُحاسب أحداً ولا يُكلّف الدولة اللبنانية أيّ ليرة، فقط يضع حدّاً لإنهاء معاناة العائلات».

غادر المفقودون تاركين صحناً لهم على مائدة الطعام، سريراً مبعثراً، بزّةَ عرسٍ معلقة، قميصاً تخبّئ عبير عرقهم، فُقِدوا تاركين يوميّاتهم في منتصف الطريق لترويَ عنهم، إنّما وراءهم نفوسٌ ما تركت لليأس في قاموسها محلّاً من الإعراب.